عثمانی انقلاب

جرجی زیدان d. 1331 AH
86

عثمانی انقلاب

الانقلاب العثماني

اصناف

ولم يكن رامز من أهل الدهاء والحنكة، وإنما يغلب في طباعه حرية الضمير واستقلال الفكر، ولا يعرف الكذب والرياء والنفاق إلا بالسماع، فهو لذلك سريع التصديق لما يسمعه ويأخذ الأمور بظواهرها. فلما سمع كلام السلطان لم يشك في صدقه، وحمد الله على وقوعه في تلك الورطة ليكون واسطة لحسن التفاهم بين السلطان والأحرار، فقال: «إني أعد نفسي سعيدا لمثولي بين يدي جلالة السلطان، وأرجو أن أكون واسطة لحسن التفاهم. وقد انتقد جلالته تقاعد رعاياه الأحرار عن رفع شكواهم إليه رأسا، ولكنني على ثقة أنهم فعلوا ذلك مرارا فرفعوا تقارير عدة مطولة عما تحتاج إليه المملكة العثمانية من الإصلاح، وما لجأ بعضهم إلى الأجانب إلا يأسا من وصول أصواتهم إلى مولاهم!»

فهز عبد الحميد رأسه هز الإنكار وأظهر الاستغراب، ثم قال: «أين هذه التقارير؟ إلى من رفعوها؟»

قال: «رفعوها إلى القصر يا سيدي.»

فأظهر الغضب وهو يقول: «إني محاط بلصوص منافقين يهمهم توسيع الخرق ليستفيدوا من النزاع. قد فهمت الآن.» ثم نهض ونظر إلى رامز نظر الاستئناس، وقال له بصوت منخفض: «اكتم ما دار بيننا، وسأعيدك إلى سجنك حتى حين موصيا الحراس بأن يحتفظوا بك فلا تهتم لذلك.»

فنهض رامز وأكب على يد السلطان يقبلها من الفرح والإعجاب. فأمر السلطان الحاجب أن ينقله إلى سجنه، فخرج رامز ومشى بين الحراس حتى أعيد إلى قصر مالطة، وقلبه يطفح سرورا وصدره قد امتلأ أملا. •••

توجه السلطان عبد الحميد إلى غرفة نومه بعد أن خلا إلى نفسه، وحينما وقع نظره على الصورة التي مثلوا له بها مدحت ورجاله وقف عندها وهو يحدق فيها بعين الغدر، كأنه يرى مدحت بين يديه ويهم بأن يصفعه، ثم صر بأسنانه وزمجر كالأسد الجريح وهز رأسه وهو يتحول عن الصورة وقال: «ويل لكم من أشرار أغرار! تصدقون أن عبد الحميد يصبر على وقاحتكم باسم الحرية؟! أبمثل هذه الجسارة يخاطب عبد الحميد سلطان البرين وخاقان البحرين؟! حتى هؤلاء الغلمان يزعمون أنهم ينصحون لي؟! إن رجلا يخاطبني بهذه الوقاحة لا ينبغي أن يبقى حيا.» قال ذلك ومشى إلى علبة السيكار فأشعل سيكارا ونفخ دخانه نفخة ملأت الغرفة، وتنهد وهو يقعد على كرسي طويل هناك، ثم استلقى عليه وهو يقول: «ولكن ما الحيلة في كشف سر هذه الجمعية ومعرفة أعضائها العاملين؟ إني إذا ظفرت بهم ذهب خوفي. إن أولئك الأغرار يطلبون الدستور، قد طلبه قبلكم رجال ذوو لحى وحنكة ودهاء وذهبوا قتلا ونفيا وإغراقا ... وسأفعل بكم كذلك، لا بد أن أطلع على أسراركم إن لم يكن بالحيلة فبالسيف أو بالمال أو بأية وسيلة. لا ينبغي أن أعول في ذلك على أولئك الأعوان الملاعين، سأبحث عنه بنفسي. إن هذا الشاب عنده سر الجمعية فكيف أستخلصه منه؟»

ونهض عن الكرسي وهو يحك عثنونه ليستحث ذاكرته وينبه قريحته، ثم وقف بغتة وأشرق وجهه كأنه هبط عليه الإلهام بالصواب فقال: «شيرين! هذه الفتاة التي حملها حبها رامزا على القدوم إلينا، لا بد أنها فعلت ذلك وفي خاطرها أن تفتدي حبيبها، ومن أهون الأمور عليها أن تشتريه بكشف سر الجمعية، وهي بلا شك عالمة بأعضائها.» ولما خطر له ذلك صفق فأتاه الحاجب فطلب إليه أن يستقدم نادر أغا، وما عتم أن كان ذلك الخصي بين يديه وقد وقف منتصبا وهو يتحفز للعمل بأمر مولاه، فقال عبد الحميد: «أين ضيفتك الجديدة؟ إلي بها.»

فمضى نادر أغا ودخل عبد الحميد الغرفة المؤدية إلى دار الحريم وأخذ في إصلاح شأنه أمام المرآة. وكان شديد الرغبة في المحافظة على نضارة الشباب حتى إنه كثيرا ما كان يختضب ويتبرج لهذه الغاية، ثم جعل يخطر في الغرفة مطرقا مفكرا حتى أتى نادر أغا ينبئه بقدوم الفتاة فأمر بإدخالها، فدخلت وقد زادها التهيب رونقا، وأخذت ركبتاها تصطكان من الخوف، لأنها بعثت ذلك التلغراف ودخلت القصر وهي لا تقدر عواقب جرأتها. وإنما فعلت ذلك مدفوعة بالخوف على رامز، ورأت صائب بك يهددها بالوشاية بها فسبقته إلى القدوم وفي نفسها مثل ما في نفس حبيبها من جهة السلطان وأعوانه، إذ لم يكن يدور في خلدها أن من يقبض على أنفس العباد ويتولى الخلافة يرتكب ذلك الشطط في سياسته إلا وهو يجهل حقيقة حال مملكته، وأنه لو عرف الحقيقة لرجع إلى الصواب، على أنها كانت تتصور ذلك الأمر أهون مما هو . ولم تكد تدخل يلدز وترى قصورها وحدائقها وميادينها وما انبث في أطرافها من الحراس والأعوان حتى تهيبت وأدركت خطأها. وكانت تتوقع أن تستطلع حال رامز ساعة وصولها، فإذا هي لا تكلم إلا صما بكما ولا يجيبها أحد عن سؤال.

شيرين وعبد الحميد

دعيت شيرين لمقابلة السلطان فتجلدت جهد طاقتها، ودخلت واليشمك يغطي رأسها ومعظم وجهها، وكان عبد الحميد عند دخولها يخطر في تلك الغرفة مظهرا عدم الاكتراث، فألقت التحية ووقفت. فأشار عبد الحميد إلى نادر أغا أن ينصرف وأومأ إليها أن تقعد، فظلت واقفة وهي تسترق النظر إلى وجهه فرأت الشرر يكاد يتطاير من عينيه، ثم رأته يقعد على كرسي وهو يومئ إليها أن تقعد على كرسي بين يديه فقعدت وقد امتقع لونها، وأدرك هو ما بها فابتسم وقال: «أنت شيرين؟»

نامعلوم صفحہ