من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
شيرين ورامز
سلانيك أو سالونيك من أكبر مدن المملكة العثمانية، وقد اشتهرت بنيل الدستور على أيدي أحرارها. وهي واقعة على البحر، وسكانها نحو 150 ألفا، منهم ستون ألفا من اليهود، والباقون من الأتراك والأروام والمقدونيين والألبان وسائر الأجناس. والسبب في كثرة يهودها أنهم نزحوا إليها من إسبانيا، كما نزحوا إلى الأستانة وغيرها، ولا يزالون يتكلمون لغة الإسبان. وللمدينة رصيف عريض يمتد على شاطئ البحر قد غرست الأشجار على جانبيه، تحده المنازل الفخمة من جهة والبحر من الجهة الأخرى، وهو أجمل متنزهات سلانيك، يؤمه الناس ساعات النزهة في العربات أو الترام أو مشاة على الأقدام.
وفي سلانيك حديقة للبلدية هي أحسن متنزه لتمضية الأوقات في المنادمة والمحادثة، وهي كبيرة واسعة، فيها كل أنواع الأشجار والرياحين والأزهار، وفيها مطاعم ومقاه ومسرح، وتشبه إلى حد كبير حديقة بتي شان في الأستانة وحديقة الأزبكية في مصر، يقصدها طلاب التنزه أو اللهو نهارا وليلا، أفرادا وجماعات، وفيهم الشاب والشيخ والصبية والعجوز من مختلف الأديان والأجناس من الإفرنج واليهود والأتراك على تباين عاداتهم وأخلاقهم، فيجلس بعضهم إلى موائد يتعاطون المشروبات، ويتمشى بعضهم في طرقات الحديقة بين الأشجار، وكل منهم في شاغل بنفسه أو بعائلته وأولاده يراعيهم ويهيئ لهم ما يطلبون، أو يتحدثون بما يطيب لهم بلا مراقبة ولا حذر.
أما في زمن الاستبداد، على عهد عبد الحميد، فكان الناس إذا دخلوا الحديقة أو غيرها من أماكن الاجتماع لا يتخاطبون إلا همسا، خوفا من جاسوس أو واش يغتنم لفظة يسمعها فيبادر بنقلها إلى أولي الشأن فيعرض قائلها للموت أو السجن، وقد لا يكون لذلك القول غرض أو مغزى، ولكن الجاسوسية في زمن ذلك السلطان بلغت مبلغا لم يكن له مثيل في زمن من الأزمان، ولا سيما في أواخر أيامه إذ تبدأ روايتنا هذه.
ففي أصيل يوم من ربيع سنة 1907 كانت حديقة البلدية في سلانيك قد كستها الطبيعة حلة خضراء مزركشة بالأزهار والرياحين، وانتشر عبيرها وصفا الجو، وتقاطر الناس إليها من كل جهة وفيهم بالزي الإفرنجي أو التركي، والتركيات إذا أتين الحديقة اخترن ناحية منها منفردة يجلسن إليها حتى لا يكن عرضة لعيون المارين. وهناك تحت شجرة كستناء غضة الأغصان جلست امرأة متوسطة العمر على مقعد من مقاعد الحديقة، وإلى جانبها فتاة في مقتبل الشباب ذات جمال وأدب وذكاء وكمال. وكان لباس المرأتين تركيا لا يظهر منه إلا رداء بني اللون يكسو الجسم كله كالجبة الواسعة، وعلى الرأس خمار شفاف يكسوه كله إلا بعض الوجه. وكان شعر المرأة الكهلة مضفورا على النمط القديم، أما الفتاة فقد ضفرته على النمط الإفرنجي وغطته بالنقاب الشفاف. ولا يحتاج الناظر إلى إمعان كثير في وجهيهما ليتبين أن الفتاة ابنة الكهلة لشدة ما بينهما من المشابهة.
وكان في يد الفتاة جريدة فرنسية تطالع فيها وهي تحاذر أن يراها أحد، وقد طوتها طيات كثيرة حتى يصغر حجمها ولا ينتبه لها الناس، فتقرأ ما يظهر منها ثم تديرها لقراءة ما بقي. وكانت والدتها تنتظر أن تترجم لها ابنتها بعض المقالة التي تقرؤها، فلما طال انتظارها قالت بلسانها التركي: «ما بالك لا تقرئين يا شيرين؟»
فرفعت الفتاة رأسها ونظرت إلى ما حولها كأنها تحاذر أن يسمعها أحد، وقالت بصوت منخفض: «ماذا أقرأ يا أماه؟ إني أرى رامزا قد شدد اللهجة كثيرا هذه المرة.»
قالت: «أكنت تقرئين مقالة رامز؟ وكيف عرفت أنها له؟ هل وقعها باسمه؟ ألا يخاف الرقباء؟»
قالت بحذر وهدوء: «إنه لا يوقع المقالات باسمه، وإنما يرمز إليه بحرف
نامعلوم صفحہ