كان رامز قد وصل إلى الأستانة في ذلك الصباح بعد أن حمل إليها مع أوراقه من سلانيك، فساروا به إلى دائرة الباشكاتب، فأرسل هذا أوراقه إلى عبد الحميد واستبقاه عنده في حجرة خاصة ليس فيها أحد. فجلس رامز على مقعد هناك، ولم يهمه ما يهدد حياته من الخطر بقدر اهتمامه بشيرين وتفكيره في حالها بعده، ولا سيما لعلمه بأن أباها لا شفقة في قلبه عليها وأن صائبا ربما طمع في زواجها فوافقه على ذلك.
وبعد قليل جاءه الباشكاتب بنفسه فحياه وتلطف في خطابه، وسأله عن سبب القبض عليه سؤال من لا يهمه الأمر وإنما يسأل على سبيل حب الاطلاع، فقال رامز: «لا أعلم السبب.»
قال: «لعلك متهم باشتراكك في إحدى الجمعيات السرية؟»
قال: «نعم، ولكن هذا ليس ذنبا.»
فقال الباشكاتب وهو يظهر الاستغراب: «إذا كنت تعترف باشتراكك في تلك الجمعية فإنك تعرض نفسك لخطر شديد، لأن جلالة السلطان يشدد في منع تلك الاجتماعات الضارة، وما كان أغناك عن الاعتراف بذلك. أقول هذا شفقة عليك إذ يظهر لي أنك من أبناء النعم وأهل الذكاء، ولكنك قليل الخبرة فربما أغراك بعض المتهوسين الذين يسمون أنفسهم الأتراك الأحرار فأدخلك في الجمعية التي سموها جمعية الاتحاد والترقي. وأظنك لو عرفت تاريخ هذه الجمعية لعدلت عنها، إن بعض المحرومين من الوظائف اتخذوها وسيلة للارتزاق بالتهديد، وكان أمير المؤمنين يقطع ألسنة الصائحين أحيانا بالوظائف، وأكثرهم كانوا يبيعون أصواتهم بدريهمات قليلة، فتكاثر أدعياء الحرية. وما أظنك من هؤلاء الأدعياء فالظاهر أنك حر الضمير تقول ما تعتقد، ولكنهم خدعوك حتى أوقعوك في الخطر، ولو أن أحدهم وقع فيه ورأى خلاصه في أن يوقعك مكانه ما تأخر عن ذلك، وقد فعلوا ذلك مرارا. وعلى كل حال ما لنا ولهؤلاء؟ أظنك لم تتناول الفطور بعد؟» ومد يده إلى جيبه فأخرج علبة سجائره ودفع إليه سيكارة، وخرج تاركا إياه يفكر فيما سمعه لعله يبوح بسر الجمعية ليتخلص من الخطر.
وبعد قليل جاءه بعض الحجاب يدعوه إلى الطعام، فنهض وتناول قليلا منه وهو مستغرق في هواجسه، ولم تبرح شيرين فكره. ثم أتوه بالجرائد للمطالعة فأخذ يقرأ وهو لا يفهم ما يقرؤه، حتى إذا آن الغداء تناوله وقد مل الانتظار وأصبح شديد الرغبة في معرفة ما يكون من أمره في ذلك القصر، الذي لا يدخله غريب إلا تهيب من كثرة من فيه من رجال العسكرية وكلهم من أهل الرتب العالية ولا سيما الياوران، ولهم دائرة خاصة يقال لها دائرة الياوران، وفيهم فحول القواد وقروم الأبطال، وهم ثلاث طبقات: ياور، وياور أكرم، وياور فخرى، والياور الأكرم فوق سائر المراتب قدرا. وكانوا يمرون به وعليهم أمارات الشرف والأبهة رءوسهم تكاد تناطح السحاب.
أما دائرة الباشكاتب نفسها فكانت تحتوي عداه على عشرين كاتبا من ذوي الرتب الرفيعة، وهم من الشبان الناشئين على الأخلاق الجديدة، وكلهم عيون على الباشكاتب كما أنه عين عليهم، وقد باعد الشقاق بينهم فتراهم جميعا وقلوبهم شتى. والباشكاتب هو الواسطة بين السلطان والحكومة، أي يبلغ إرادته وأوامره إلى الصدر الأعظم أو شيخ الإسلام.
وعلى الباشكاتب ترد الأوراق الرسمية من الباب العالي ومن شيخ الإسلام والنظارات والولايات، كما تصدر عنه إلى الباب العالي وجميع الجهات. وهو يبعث بملخصاتها لتوضع على المكتبة السلطانية، فيتلقى عنها الإرادات بتبليغ الأمناء أوامر يأمرهم السلطان بالتبليغ من موظفي الحضرة الشاهانية. والباشكاتب يبعث بالإرادات السنية بإمضائه في أوراق صغيرة إلى الصدر الأعظم أو إلى من تخصهم من الوكلاء والوزراء.
وحين يتسلم الصدر الأعظم أو غيره تلك الإرادات يكتب على كل منها تاريخ تسلمها باليوم والساعة والدقيقة. ولدى الباشكاتب دفتر يكتب فيه صورة ما يبلغ من الإرادات وتاريخها ويوقع عليها، وهذه عادة جديدة دعا إليها ما تبين من تبليغ إرادات لا أصل لها.
وكان الباشكاتب يعد ركنا عظيما من أركان الجواسيس في السراي، وهو يعرض فوق وظيفته الرسمية العليا أوراق الجواسيس التي ترد عليه منهم، ويوليها النصيب الأوفر من عنايته واهتمامه، فلا تلبث في يده إلا ريثما يتناولها فيبعث بها إلى الحضرة الشاهانية فتذهب أسرع من منحدر السيل، فيتلقى عنها الإرادة في الحال سواء أكانت للاستجواب أو الاستيضاح أو الالتفات والإحسان. وهذا عدا الأوراق الرسمية أو أوراق ذوي الحاجات، فإن لها طريقا في العرض لا يتغير، وربما تأخرت شهورا وربما ضاعت ولا ينفع البحث عنها.
نامعلوم صفحہ