فصادق صائب على ما قاله طهماز ووافقه على الانتظار. وكانت المائدة قد أعدت فنهضا للطعام.
رامز في السجن
سيق رامز إلى دار التحقيق بعد القبض عليه في مركبة مقفلة يحرسها اثنان من الضباط، وحملوا معه أوراقه في محفظة كبيرة قد ختموها في غرفته بوجود ناظم بك. فكان وهو في المركبة مستغرقا في تصوراته وقد علم أنه صائر إلى أشد الأخطار، فلم يبال شيئا منها لولا شيرين، لأنها كانت مستقر آماله وينبوع مسراته، يكفيه منها نظرة تودد أو كلمة إعجاب بما يكتبه لكي يستفزه الطرب وتهب فيه الحماسة، فينشط إلى مواصلة الأخذ بناصر الأحرار. وكانت هي التي زادته تمسكا بأذيال الحرية والدفاع عنها، حتى تهور وألقى بنفسه في ذلك الخطر.
وللمرأة روح تبثها في قلب الرجل فتنبه عقله وتثير همته ويصبح طوع إرادتها، يحب ما تحب ويتفانى في سبيل ما يرضيها. فإذا كانت قوية المبدأ سامية الخلق شريفة الإحساس، صعدت به إلى سماء المجد، وأصبح همه التخلق بتلك الأخلاق. وكانت شيرين مفطورة على حب الحرية، فكيف لا يعشقها رامز ويتفانى في نصرتها؟ وكم من قائد يخوض ساحة الوغى ويعرض حياته للخطر، وهو لا يرجو من وراء ذلك إلا ابتسامة أو كلمة إعجاب من حبيبته! وكم من عالم أو كاتب أو جواد أو مصلح يشقى في جهاده التماسا لرضى حبيبة عاقلة فطرت على حب هذه الفضائل! فيا لسعادة الأمة التي تسمو فيها أخلاق المرأة حتى تعشق الفضائل، فتكون عونا للرجل على المبرات أو الحسنات أو السعي في سبيل الحق والحرية! إذ تكون محرضة له تستنهض همته بنظرة أو كلمة. وويل للأمة التي انحطت فيها أخلاق المرأة فاقتصر همها على الأكل والشرب، وانحصرت أحاديثها في الخرافات والأوهام!
قضى رامز مدة الطريق من منزله إلى دار التحقيق وهو غارق في بحار الهواجس، لم تبرح صورة شيرين مخيلته، وتذكر نصيحتها له بألا يستخلص صائبا، فقال في نفسه: «لا بد أن تكون هذه الوشاية منه.» ثم أكبر أن يرتكب صديق مثل هذه الرذيلة.
ولم يتنبه لنفسه إلا وقد وقفت المركبة به وفتح بابها، فنزل وهو يتجلد ويظهر عدم المبالاة. فاستقبله ضابط كان واقفا هناك وأشار إليه أن يمشي في أثره، فتبعه حتى دخل قاعة ناظم بك القومندان.
وكان رامز طويل القامة، جميل الطلعة، متناسب التكوين، وفي عينيه ذكاء ومهابة، حسن الهندام نظيف الثوب، لكنه لم يستطع إصلاح شأنه في ذلك الصباح لأنه نسي نفسه وانصرف بكليته لما هو فيه. فلما دخل قاعة ناظم بك وجده جالسا في صدرها بلباسه العسكري وبين يديه المحفظة المختومة وبجانبه صائب بك، فلما رأى صائبا أجفل وتحقق ظنه، فارتعدت فرائصه من الغيظ لكنه تجلد، فابتدره ناظم بك قائلا: «كيف ترى نفسك يا رامز أفندي؟»
قال: «لا أرى شيئا.» وهز كتفيه ازدراء.
فتصدى صائب للكلام بلطف وهو يظهر الأسف، وقال مخاطبا ناظم بك: «إن رامز أفندي مغشوش في الطريق الذي سار فيه، وإنما أغراه أهل الطيش والخداع، ولا شك عندي في أنه حمل على ما فعله مراعاة لأصدقائه.»
فقال ناظم بك: «كيف يكون كذلك وهذه الأوراق تؤيد أنه خائن، وهذه كتاباته في الجرائد التركية والفرنسية تشهد عليه؟ وأظنك تدافع عنه لأنه من أصدقائك.»
نامعلوم صفحہ