فضحك صائب ضحكة طويلة مغتصبة، وتحول وخرج وهو يردد قولها باستهزاء: «نموت ضحية الحرية وقول الحق! ما شاء الله!» •••
وكان طهماز وامرأته جالسين في حجرة الاستقبال يسمعان ما دار بين شيرين وصائب، وكانا يتوقعان أن تذعن شيرين خوفا، فلما رأيا عنادها قال طهماز: «قبح الله هذه الفتاة! ما أشد جنونها! إذا كانت لا تخاف على حياتها فإننا نخاف على حياتنا بسببها.»
وما خرج صائب حتى خف طهماز إليه وأخذ يستعطفه ويرجوه ألا يعجل بالانتقام، وأن يعذر شيرين على طيشها ويتمهل ريثما يقنعانها. ورفض صائب في بادئ الأمر، وطهماز يبالغ في استعطافه، ثم وعد بأن يصبر يوما أو يومين إكراما لخاطره، وودعه وانصرف وهو ينتفض من شدة الغيظ لما سمعه من شيرين، وكان يتوقع استسلامها له فور اطلاعها على ذلك الكتاب الذي وجده بين أوراق رامز فاحتفظ به ليتخذه ذريعة لإذلالها. فلما رأى جفاءها حدثته نفسه بأن ينتقم منها، لكنه خشي أن يفقدها إلى الأبد، فلما استمهله أبوها ووعده بإقناعها تربص ليرى ما يكون من أمرها.
أما توحيدة فأصبحت لا تعلم ماذا تعمل، وقد لامت ابنتها على ما بدا منها، وصممت على إقناعها بالرجوع عن عنادها، وأشارت على طهماز بأن يعول عليها في إقناع شيرين، وأن يلحق بصائب ليعاود استعطافه والاعتذار إليه، فلبس ثيابه وسار في أثره.
وكانت شيرين بعد أن خرج صائب من غرفتها قد أغلقت الباب بعنف، وأظهرت أنها تلتمس الانفراد والراحة في الفراش، فتركتها والدتها وذهبت إلى غرفتها لتعمل فكرها في حيلة تخترعها لإقناعها.
فلما خلت شيرين إلى نفسها فكرت فيما سمعته ورأته، فتحققت فداحة الخطر عليها وعلى رامز، وأيقنت أنهما مقتولان. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وهي ساعة تستولي فيها الوحشة على قلوب البشر كأنهم يشاركون الطبيعة أسفها على فراق الشمس، فتنقبض القلوب وتستوحش النفوس وتتسلط السويداء على العقول فلا يرى الناس من الدنيا إلا وجهها المظلم، فكيف بمن كان في مثل حال شيرين من اليأس، بعد أن قضت نهارها بين جدال وبكاء وحزن وخوف؟
على أن شيرين بعد أن أغلقت غرفتها وجاش الحزن في خاطرها، عادت فتذكرت حبيبها وكيف كان يأتيها في مثل تلك الساعة فيخفف أحزانها ويذهب وحشتها بلطف حديثه، ثم تصورت ما هو فيه من الضيق، وكيف أنه لا يلبث أن يذهب ضحية لذلك الظالم، وقد يسجن ويعذب أو يقتل أو يلقى في البوسفور فيذهب فريسة للأسماك. فلما تصورت ذلك اقشعر بدنها وغلب الحزن عليها ولم تجد ما يفرج كربتها غير البكاء، فأطلقت لنفسها العنان وأخذت تندب سوء حظها وتبكي وتشهق كالطفل، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «رامز ... حبيبي رامز، أين أنت الآن يا ترى؟! إنك مسجون، وعما قليل يحملونك إلى يلدز قبر الأحرار ومدفن الحرية ... لا تخف ، لا تبال الموت في سبيل الحق والحرية ... ولكن أيموت رامز؟! أيموت الحر الصادق ويبقى هذا الجاسوس وأصحابه على قيد الحياة؟!»
قالت ذلك وصرت بأسنانها، ووثبت من فراشها وقد أظلمت الغرفة، واتسع مجال الخيال، فتصورت رامزا في ضنك، وأنه لا شك يفكر فيها ويخاف عليها ويخشى أن يحظى صائب بها بعده، فقالت: «لا تخف يا حبيبي، إني ثابتة على ودادك متفانية في حبك، وإن يد ذلك المنافق لأقصر من أن تنال مني شعرة، وأن يحظى مني بنظرة ... لكن آه ما الفائدة من ذلك وأنت في خطر القتل الشنيع؟! ما العمل الآن يا شيرين؟!»
وكانت تقول ذلك وهي تتمشى في الغرفة وقد أصبحت في غفلة عما يحيط بها ونسيت موقفها، ثم أخذت تستجمع قواها فرجعت إلى السرير واستلقت عليه وأطلقت لتصورها العنان، فسمعت وقع خطوات في الدهليز عرفت أنها خطوات أمها، ثم سمعت نقرا على الباب فعلمت أن والدتها تطلب الدخول عليها فتظاهرات بالنوم ولم تجب، فألحت والدتها في قرع الباب خوفا على ابنتها من أن يصيبها إغماء أو أي سوء في وحدتها، فلم تجد شيرين بدا من النهوض، فنهضت وفتحت الباب وهي تتجلد لتخفي ما في نفسها، فدخلت والدتها وفي يدها مصباح وقد بلل الدمع عينيها، فتأثرت شيرين بحنوها وحنانها. وكانت الرابطة بينها وبين والدتها أشد من رابطة سائر البنات بأمهاتهن، لأن شيرين كانت مستودع أسرار تلك الوالدة التعسة التي خانها الحظ وصارت زوجة لذلك الرجل الجاهل، فاحتملت فظاظته وحماقته إكراما لابنتها فربتها أحسن تربية، ولما كبرت اتخذتها صديقة تشتكي إليها همومها ومصائبها، وهي التي سهلت لها الاجتماع برامز، وكانت تسر باجتماعهما وينشرح صدرها لتحابهما، وتعد الأيام ليتم قرانهما. وقد أحبت رامزا محبة الوالدة لولدها، فكان وقوعه في هذه الورطة من أكبر أسباب شقائها، وزاد بلبالها لما علمت - مما دار بين شيرين وصائب - أن ابنتها عرضة لذلك الخطر إلا إذا رجعت عن عنادها ورضيت بصائب مع كرهها له واستنكافها دناءة أخلاقه، ولكن حنو الأمهات غلب عليها فاختارت أهون الشرين لعلمها أن صائبا إذا لم ينل رضاء شيرين وشى بها وعمل على قتلها.
كل هذه الهواجس مرت بخاطر توحيدة في غرفتها بعد ذهاب صائب، وكانت تنوي أن تؤجل مخاطبة شيرين إلى الصباح، لكنها لما تراكمت عليها الهواجس لم تعد تصبر عن رؤيتها لتطمئن عليها ولعلها تستطيع إقناعها بالقبول، وكان زوجها قد غادر البيت فرحا برتبته ليقضي السهرة مع صائب ويطمئنه إلى نيل بغيته.
نامعلوم صفحہ