قالت: «إن أباك ألح علي أن أقنعك بأنه شاب يليق بك، وأنه قد يكون واسطة لإنقاذ رامز بنفوذه إذا قبلته.»
فأحبت شيرين أن تبقى على تجلدها، لكنها غلبت على صبرها فقالت: «إنقاذ رامز؟! أهو ينقذه؟ وإذا أنقذه فماذا يفيدني ذلك إذا كنت عند هذا الجاسوس؟ بل كيف ينقذه وهو الذي رماه في هذا الفخ؟ و...» فوضعت توحيدة يدها على فم شيرين، وأشارت بوضع سبابتها الأخرى على فمها إشارة السكوت خوفا من سامع أو متلصص.
فأزاحت شيرين كف والدتها عن فمها وقالت: «ولماذا أسكت؟ بأي قلب تخاطبونني في هذا الشأن؟!» وغلب عليها البكاء. فلم تر والدتها خيرا من تركها لئلا تقول ما يكدر أباها، وهو إذا غضب لا يقدر عواقب ما يقوله، فتنحت عن سرير ابنتها وهي تقول لها: «إني تاركتك الآن ريثما تفكرين في الأمر، وسأعود إليك بعد قليل»، وأشارت بعينيها أنها تفعل ذلك محاذرة من طهماز. وخرجت وأغلقت باب الغرفة وراءها، وأظهرت أنها ذاهبة إلى غرفة زوجها لتخبره بما جرى، وهي تعلم أنه في حجرة الاستقبال، فما مشت خطوتين حتى رأته يمشي في أثرها فتظاهرت بالبغتة، وأومأت إليه أن يتبعها فدخلا غرفته وقالت له: «لا بد من الصبر يا سيدي، إن شيرين لا تزال منحرفة الصحة فلنتركها الآن.»
قال: «نتركها! ولماذا؟ وبعد قليل يأتي البك، ويجب أن نجيبه سلبا أو إيجابا، وأنا وعدته بالإيجاب فهل أكذب عليه أم كيف تريدين يا هانم أفندي؟» قال ذلك بتهكم وجعل يعبث بأخمص رجله اليسرى بأصابع يده اليمنى.
فاهتمت توحيدة بالأمر لعلمها أن زوجها لم يعط الثبات والحزم إلا في معاكستها، فهو ضعيف مع كل إنسان، كثير الإصغاء والإذعان لأهل الدسائس، يدار بكلمة ويقاد بشعرة، إلا مع امرأته فإنه عنيد لا يرجع عن قوله لأنه يعد رجوعه ضعفا، وكيف وهو رجل البيت لا يكون كلامه نافذا؟ فلما رأت توحيدة تصميمه قالت: «لا بد من التأني يا سيدي، لأن شيرين مشغولة الخاطر على رامز مثلنا، فاتركني ريثما أخاطبها في فرصة مناسبة.»
قال: «بل هي منشغلة الخاطر عليه أكثر منا جميعا، لأنها تريد أن تكون من الأحرار، ما شاء الله! هل تظنين سكوتي عنها في الماضي كان عن رضى وقبول بما كانت تأتيه؟ ولكني كنت أغتفر ذلك أحيانا لأن رامزا ابن خالتها، وكنت أتوقع أن ترعوي من نفسها فإذا هي لا تزداد إلا تماديا حتى كادت توقعنا في ورطة لا خلاص لنا منها إلا على يد صائب بك، وقد تفضل علينا الرجل وحذرنا، بارك الله فيه! فكيف نقابله بالكذب أو الجفاء؟! ها أنا ذا قد صرحت لك بكل شيء، فهمت؟» قال ذلك وهو يشير بيديه متحمسا، ثم أخرج سيكارة من صحن بين يديه وأشعلها، واتكأ وأخذ يدخن ولسان حاله يقول: «قد فعلت ما علي، فافعلي ما عليك.» •••
لم يبق شك عند توحيدة في حرج مركزها، فاستندت إلى الحائط وأخذت تفكر في الأمر، وقد بدا القنوط في محياها خوفا على شيرين من دناءة ذلك الجاسوس واستبداد والدها، وهي تعلم جيدا أن ابنتها لا تقبل غير رامز، فكيف إذا كان البدل مثل صائب؟ لكن خوفها على حياتها وحياة رامز هون عليها الاقتناع برأي زوجها وهم في عصر كل شيء فيه جائز، عصر الجاسوسية والظلم، وقد أصبحت الأرواح والأعراض والأموال في أيدي الجواسيس يضعون من شاءوا ويرفعون من شاءوا، لا يتكلفون في ذلك إلا كلمة يقولونها بتقرير يرفعونه إلى ذلك الطاغية السفاح، وقد عرفت أناسا ذهبوا غرقا في البوسفور أو قتلا بحد السيف أو بالسم وهم أبرياء، فخافت أن يصيب ابنتها شيء من ذلك وهي متهمة بالتشيع للأحرار، ولا بد أنهم عثروا على أوراق لها في جملة أوراق رامز فيها ما يكفي لإثبات التهمة عليها، وإذا أغضبت صائبا تمت أسباب التعس لأنه يسعى في الانتقام لنفسه من رامز ومنها.
مرت تلك الخواطر أمام مخيلة توحيدة وهي مسندة كتفها إلى الحائط وقد أطرقت واستغرقت في لجج الأفكار، وزوجها مشتغل بالتدخين يتلهى بمراقبة حلقات الدخان وهي صاعدة، أو ينفض الرماد عن طرف السيكارة وإن لم يكن هناك رماد.
وبينما هي في ذلك إذ سمعت جرس الدار يدق، فاستيقظت من هواجسها وأسرعت دقات قلبها خوفا من أن يكون القادم صائبا فأصغت ريثما يفتح الخادم الباب، ولم يمض يسير حتى جاء الخادم مسرعا وهو يقول: «أتى البيك، صائب بك.»
فهب طهماز من مجلسه حائرا ولم يعرف كيف ينتعل حذاءه من البغتة والدهشة، وانصرفت توحيدة إلى بعض مهام البيت وهي تريد أن تعود إلى ما كان يريده زوجها من التحجب عن كل زائر لتخلص من رؤية هذا القادم، مع أنها التي حملته على التساهل في أمر الحجاب جريا على مقتضى التمدن الحديث، على أن الأتراك ولا سيما في سلانيك كانوا قد خففوا الحجاب على الإجمال، فالمرأة تجالس الرجال وتمشي في الأسواق، ولكن طهماز لم يكن يأذن أن تلاقي زوجه غير الأخصاء مثل صديقه صائب.
نامعلوم صفحہ