عثمانی انقلاب
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
اصناف
أم باريس من ذلك الحين كثيرون من شبان العثمانيين وكهولهم، حتى الشيوخ ذوي العمائم والفراء، ونشروا الجرائد والرسائل والوريقات، وأدبوا مآدب وعقدوا اجتماعات سياسية؛ فانصرفت همم رجال المابين والسفارات العثمانية إلى إبطال هذه النشرات واسترضاء أصحابها بالمال والرتب والنياشين والمناصب، حتى قيل لبعضهم: «اطلب تعط.» كما ينقل عن الخلفاء في حكايات ألف ليلة وليلة، وكان العطاء حاتميا بل أكثر، كان سلطانيا شاهانيا! وصار طلاب الوظائف أو المعزولون يقصدون باريس، فيكون ذلك سببا لعودتهم إلى وظائفهم، ودخل في حزب تركيا الفتاة الصبيان الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، والتونسيون حتى الأجانب من الطليان واليونان، وأصبحت سفارة باريس مرجعا للجميع، كأنها أعظم دائرة من دوائر الباب العالي! وأقدم الجرائد التي أبطلت جريدة «المرصد» العربية التي تعين صاحبها عضوا في شورى الدولة، فحسده عزت باشا العابد حتى صرف قوة عقله وذكائه في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه، وظهرت عدة جرائد ورسائل ومحررين بالتركية والعربية والكردية والفرنسية والألبانية وغيرها، منهم أصحاب صدق وقناعة، ومنهم ذوو طمع وشعوذة، ورجال الدولة يتقربون باسترضائهم وإحضارهم، كما كانوا في الأزمان الماضية يتقربون بجلب أهل الظنة من الشيوخ وأصحاب الكرامات، كالمرحومين: الشيخ أبي السعود من القدس الذي استقدموه للسلطان محمود خان، والشيخ السن من صيداء، والشيخ العمري من طرابلس الشام، وكذا المشايخ الذين كانوا في المابين، وخاتمتهم أستاذنا الشيخ حسين الجسر مؤلف «الرسالة الحميدية»، فلو اطلعت على تراجم هؤلاء الشيوخ ومقدار معارفهم وكيفية طلبهم والاسترشاد بهم؛ لعرفت ارتقاء الفكر التدريجي، الذي حدث من عهد السلطان محمود، ولرأيت للانقلاب الحاضر معنى في «الرسالة الحميدية» التي دلت على كثير من العلوم الطبيعية والعصرية.
لم يقصد من نشرات تركيا الفتاة في أوروبا إلا إيصال الشكاية من سوء الإدارة إلى مسامع الحضرة السلطانية، وإفهام الدول الأوروبية الموقعة على معاهدة برلين بأن لحزبهم السياسي كيانا ووجودا، وأن غايتهم إعادة القانون الأساسي، فكادت أوروبا تعتد بوجودهم، كما ظهر من انتصار الجرائد الباريسية لصاحب جريدة «مشورت»، يوم محاكمته في باريس والحكم عليه بفرنك واحد مع تطبيق قانون بيرانجة القاضي بالسماح عنه، وبينا كان المابين يقدم رجلا ويؤخر أخرى في إجابة حزب تركيا الفتاة إلى مطالبهم الإصلاحية، وإعادة القانون الأساسي، وإذا بالمشكلة الكريدية ولدت الحرب بين الدولة العلية واليونان (نيسان/مارس 1897)، وتم النصر فيها للعساكر العثمانية، فأخذته العزة ودام على سياسته الاستبدادية، فقعدت همة الأكثرين من حزب تركيا الفتاة وخضعوا لأحكام الاستبداد جبرا وقهرا، وإن كانوا غير راضين عنها، وذاقوا عذابا شديدا بسبب غلاء أوروبا وكثرة الإنفاق فيها، مع قلة ذات يدهم وفراغهم من نحو صناعة أو تجارة بأيديهم، كما هي حال الأرمن والبلغار، إلا ما كان من علمهم باللغة التركية أو العربية أو معاونة الأطباء في المستشفيات بأجرة قليلة والسهر في الليل على المرضى، والأغنياء من أهل البلاد وكبار الموظفين لم يساعدوهم بشيء، إلا بعض الأمراء المصريين الذين نهجوا نهج مصطفى فاضل باشا مؤسس حزب تركيا الفتاة؛ فإنهم أمدوا بعضهم بالأموال وكانوا عونا لهم، أما الجمعيات الأرمنية والمقدونية الانقلابية، فإن أصحابهم وأغنياء أمتهم أعانوهم بالمال وأيدوهم بكل ما في طوقهم، وقد علمت مما تقدم أن ميزانية الجمعية الأرمنية بلغت مليون فرنك، فأين هذا من جمعية الاتحاد والترقي؟ ألا إن سبب خذلان العثمانيين لجمعياتهم هو موت النعرة الوطنية في نفوسهم، وفقد الحماسة القومية، وكونهم لم يفقهوا معنى الاجتماع والتعاون.
غرور المابين واستفحال الاستبداد
أظهرت الحرب اليونانية العثمانية فتوة الأمة العثمانية وحميتها وسلامتها من عوارض المرض أو الهرم كما يصفها أعداؤها، وظهر فيها من شجاعة الضباط العثمانيين ومعارفهم، ومحافظتهم على قواعد النظام الحربي، ومقدرتهم على ضبط أفراد العساكر وكفهم عن النهب والعبث بالآداب، وغير ذلك من الأفعال الهمجية؛ ما يخلد لهم هذه المآثر في بطون التواريخ. وأبرز الجيش العثماني من الشجاعة العظيمة والصبر والقناعة المعجب والمعجز، وامتاز بالسلامة من الابتلاء بالمسكرات، كما هي عليه عساكر الروس وغيرهم من عساكر أوروبا.
زاد غرور المابين واستبداده بعد خروج الدولة من ميدان الحرب فائزة منصورة، وانتقل مركز إدارة الحكومة من الباب العالي إلى سراي يلديز، وأصبح مجلس الوكلاء لا عمل له، والنظار لا وظيفة لهم إلا تنفيذ ما يقرر في السراي، على أن الالتفات والإقبال والتقريب والنفوذ كان ينتقل من الباشكاتب إلى الكاتب الثاني إلى كاتب الشفرة
4
إلى «الشيخ» إلى «العابد» إلى «الملاحمة»، إلى غني آغا إلى لطفي آغا إلى فهيم باشا الجبار العاتي، أولئك الذين ألقوا الرعب في قلوب المسلمين والمسيحيين وغيرهم؛ مما دل على استبداد متقلب مذبذب حيران، حتى لم يعد لأحد ثقة بالحكومة، وكاد الانقلاب يحدث في السراي نفسها، وأكثر رجال السراي أميون، ويندر في كتاب المابين من يعرف اللغة الفرنسية بله غيرها من لغات أوروبا، وهم في جهل مطبق بالسياسة، ولذلك كثر الخطأ السياسي وسوء الإدارة واختلاس الأموال الأميرية وظلم الرعية بما لم يسبق له مثيل.
تفنن المابين في أكل الرشا ومنح الرتب والأوسمة
كان لرجال المابين في الارتكاب وسوء الاستعمال ظرف ورقة وتورية بديعة، فلما أنشئ قضاء «بئر السبع» في تيه بني إسرائيل، وعين له قائمقام في الأستانة؛ قال له دولة الناظر حسبما أفاد: «بالطة كيرمامش أورمانه كوندريورم»؛ أي إني أرسلك إلى غابة لم تدخلها بلطة الحطاب! فذهب وحطب في الناس حتى عزل وأخذ تحت المحاكمة، ثم عين في محل آخر؛ وهذا مثال من ألف، بل آلاف أمثلة للارتكاب الذي أفسد أخلاق الأمة وأخرها عن اللحاق بالأمم المتمدنة، ويروي عنه الناس نوادر عجيبة وأساطير غريبة، تحتاج إلى الجمع في كتاب أو الإفراغ في قالب قصصي، وبعد أن كان تعيين الموظفين يكون بطلب الباب العالي والنظارات، صار التعيين وتوجيه الرتب من المابين مباشرة!
تهافت الناس على احتجان الرتب من لقب بك الذي لا وجود له في الحقيقة بين الألقاب الرسمية كوجود لقب باشا مثلا، وإنما اشتهر فريق باسم بك وفريق باسم أفندي، فكانوا عند توجيه الرتبة ينظرون، إذا كان الاسم مقرونا بلقب بك صدرت الإدارة السنية بموجبه ونشرت في التوجيهات الرسمية؛ فصار بائعو الرتب يتعمدون وضع لقب في الطلب لتصدر بموجبه الإدارة السنية، وتنشر في القسم الرسمي من الجرائد، فتتناقلها الجرائد العربية، وتقول وجهت الرتبة الفلانية مع لقب بك لتوهم القارئ أن لقب بك توجيه جديد، كلقب كونت أو مركيز عند الإفرنج، امتلأت دوائر الأستانة بالموظفين بلا تمييز في جدارتهم واستحقاقهم واضطلاعهم بالعمل الذي هم فيه، ولم يكن الغرض من التعيين التحري على موظف قادر على إيفاء الوظيفة حقها من العمل، بل إيجاد وظيفة وعمل للمقربين والملتمس لهم، أو للذين يخشى بأسهم! فزاد عدد الأعضاء في شورى الدولة عن المائتين، ونظامهم أن يكونوا سبعة وثلاثين عضوا، وكذلك مجلس المعارف، ومجلس التفتيش والمعاينة الضاغط على حرية نشر الكاتب واستحضارها من الخارج، وهو الذي محا من كتب اللغة كلمات كثيرة مثل: حرية، وطن، اختلال انقلاب، جمعية، رشاد ... كما غيرت أسماء الموظفين من عبد الحميد وسلطاني ونحو ذلك إلى أسماء أخر، وبعضها حرفت وكتبت سلتاني، وامتلأت نظارة المعارف بالموظفين، حتى قال ناظرها الأخير لما عرضوا عليه الميزانية: لولا وجود معاشات المعلمين لأمكنني وضع الموازنة! فكانت معاشات المعلمين تضايقهم، وهم يريدون حصر المعاشات بالموظفين من الرؤساء والأعضاء والكتاب والمفتشين، وزاد عدد أعضاء الجمعية الرسومية عن ثمانين عضوا، وكذلك مجلس المالية والأوقاف والعسكرية والبحرية، وغير ذلك من أنواع المجالس ودوائر الحكومة والمعية الشاهانية، حتى ضاقت المجالس والأقلام بالموظفين، وصار أكثرهم لا يجد له كرسيا للجلوس عليه! وكانوا يأخذون رواتبهم وهم نائمون في بيوتهم.
نامعلوم صفحہ