عثمانی انقلاب
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
اصناف
تولى سعيد باشا الصدارة بعد مدحت واشتهر بالنزاهة والاستقامة، فلم يسمع عنه ارتكاب ولا انهماك في جمع الأموال وادخارها، ولهذا كان أقل الصدور ثروة، وكان شديد السطوة على المرتكبين، كثير البطش بهم والاستبداد فيهم، ولكنه عادل في أحكامه وعقابه، وفي زمن صدارته وضع نظام المعارف، وأسست المدارس على النسق الجديد، وصار للمعارف مورد واف من واردات الحصة التي أضيفت إلى الأعشار، ونظمت نظارة العدلية وأصول المالية، وأسست إدارة الديون العمومية، وبوشر في مد بعض الخطوط الحديدية وإصلاح الطرق والمعابر، من دون أن يؤدي إعطاء امتيازاتها إلى ارتكاب فاحش، فكان أصلح الصدور في الدور الأخير، ولم ينتقد عليه حزب تركيا الفتاة إلا استبداده ومقاومته مشروع مدحت باشا، وتوقيف أحكام القانون الأساسي وجميع ما صنعه وهو رئيس كتاب المابين!
لم يصد سعيد باشا كونه من رجال الكامبريلاب؛ لأنه نشأ وتربى في المابين؛ أن يحاول الاستقلال في وظيفته وإعلاء شأنها ورفع مكانتها، وتمشية المصالح بالعدل على قاعدة مطردة وأصول منظمة، كما كانت عليه في زمن عالي باشا، فأصبحت بذلك أعمال سعيد باشا موضعا للريبة، وكثرت الوشايات به فصار مبغوضا منفورا منه، ووضعت عليه العيون والجواسيس، وصارت أعماله تراقب مراقبة دقيقة؛ فأحدث قلما للترجمة في المابين وانجمن التفتيش «مجلس التفتيش»، والمعاينة في نظارة المعارف لمراقبة الكتب المطبوعة والتدريس ومضادة الضار منها «!» على زعمهم وبحسب اصطلاحهم، وقلم مراقبة المطبوعات الداخلية والأجنبية في الباب العالي، هذا ماعدا دوائر وشعب الخفية «الجواسيس» المتعددة المحدثة التي مركزها في المابين تحت نظارة السرخفية «رئيس الجواسيس»، فهذا الذي قضى بسقوط سعيد باشا بالحقيقة والواقع، فذهب بإصلاحاته أدراج الرياح، وإن كان عزله في الظاهر بسبب احتلال البلغار للروم أيلي الشرقية، وإصراره على إرسال العساكر كما تصرح بذلك معاهدة برلين.
صدارة كامل باشا الصدر الحالي
تولى الصدارة كامل باشا الصدر الحالي بعد سعيد باشا، ومولده في جزيرة قبرص، ومرباه في مصر ولهذا نسب إليها، وله معرفة باللغات الأجنبية وبإدارة الدولة؛ لأنه تقلب في جميع وظائفها؛ فمن قائمقام إلى متصرف إلى وال ناظر، ولكنه في نظر تركيا الفتاة كان أقل شهرة من كثيرين من الوزراء والرجال الموجودين إذ ذاك، واستمرت صدارته ست سنوات وهو آلة في يد المابين، مطيع لما يلقى عليه من الأمور، ثم ظهرت شجاعته فعارض وعاند، فأصابه ما أصاب سلفه سعيد باشا من سوء الظن به، والريبة في أعماله وشئونه مما قضى بفصله.
صدراة جواد باشا وضعف الدولة
لما ولي الصدراة جواد باشا قوبل ذلك الاستغراب العام، ولم يكن يخطر تعيينه ببال؛ لأنه من أمراء العسكرية وهو صغير السن غير متمكن من اختبار الإدارة الملكية، على أنه كان من النابتة الجديدة، وقد تخرج في المدارس العسكرية، وربما كان الغرض من تعيينه هو الإيهام بالعود إلى الإصلاح وإطلاق الحرية، ولكنه في الحقيقة لم يكن قائما بوظيفة الصدارة، بل كان ياورا للحضرة السلطانية مكلفا بتنفيذ الأمور التي تلقى عليه! كما كان رئيس الوزراة الألمانية ياورا للحضرة الإمبراطورية، ولكنه غير مسئول أمام الريشستاغ، فلم يبق بعد ذلك شأن للصدارة، واستولى رجال المابين على الشئون كافة، وصار في يدهم العزل والتوظيف والحل والربط، وإعطاء الامتيازات بمد الخطوط الحديدية واستخراج المعادن وسائر الأمور النافعة، وكانوا يتناولون الرشا من وراء ذلك بصورة فاحشة واستولوا على الأوقاف، ووسعوا نطاق الخزينة الخاصة بانتزاع الممتلكات من أيدي أصحابها بالثمن البخس، وإقامة الموظفين فيها يعارضون بنفوذهم موظفي الحكومة ونفوذها، حتى أصبح المابين حكومة صغيرة قوية! داخل حكومة كبيرة ضعيفة؛ لأن مركز الحكومة نقل من الباب العالي إلى سراي يلديز السلطانية!
الجاسوسية في الدولة العلية
ضعفت إدارة الدولة وجعلت تتدهور بسرعة إلى دركات التأخر والانحطاط، بعد أن خطت خطوات محمودة في سبيل التقدم أيام صدارة سعيد باشا، وانقطع أمل الأحرار العثمانيين، وخاب رجاؤهم بعد أن كانوا يؤملون تخليص الدولة والمملكة من المرض الذي منيتا به قديما، فاضطهد هؤلاء الأحرار وأهينوا وعوملوا أسوأ معاملة، حتى ذاقوا أشد العذاب الوجداني والأدبي، وصار أرباب الدناءة والفساد يتقربون إلى المابين بالتملق والوشاية والتجسس على إخوانهم وأعمامهم وآبائهم! ومنهم من تجسس على أمه وأخيه فنفيا من الأستانة، فكانوا - بمفترياتهم - يصورون الرعية الصادقة للسلطان الأعظم كالوحوش الضارية تريد افتراسه ونزع تاجه، ويزينون في عينيه الاستبداد، ويبعدون عنه الخبيرين بأمور الدولة العارفين بطرق الإصلاح، زاعمين أنهم من ذوي الأفكار المتطرفة وحزب تركيا الفتاة، حتى اختل نظام المملكة وبطلت مراعاة الأحكام القانونية، والسير في إدارة الدولة على الأصول والتقاليد المعروفة من القديم، وفسد التعليم في المدارس، وانحرفت إدارة الأمور الداخلية والخارجية عن محورها، ومالت إلى التدلي والانحطاط، رغم الأبهة الظاهرة، والعظمة الكاذبة، ولا سيما في موكب صلاة الجمعة؛ إذ تصطف العساكر في ساحة المسجد الحميدي أمام باب السراي صفوفا مضاعفة بعضها وراء بعض رجالا وفرسانا، وتتسابق مركبات الكبراء والسفراء الأجانب، ثم تشرق المركبة السلطانية من مطلع السراي و«المشيرون وكبار رجال المابين حافون من حول المركبة مشاة خشع الأبصار ترهقهم ذلة من جلال تلك العظمة الإمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان كبرا وجبروتا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون، وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار»، وكان في كل نظارة من نظارات الداخلية والعدلية «الحقانية» والمالية والمشيخة الإسلامية وغيرها؛ رجال معروفون يبيعون الوظائف والرتب بأسعار معلومة، ويقتسمونها هم وكبار الموظفين، فمن اشترى وظيفة بمائة ليرة فأكثر فإنه يجتهد في استغلاله منها أضعاف ما بذله بإرهاق الأهالي وظلمهم أو اختلاس الأموال الأميرية أو بكليهما!
الميل عن إنجلترا إلى ألمانيا والحوادث الأرمنية
انحرفت سياسة المابين عن إنجلترا الملحة في طلب القيام بالإصلاحات وتغيير الإدارة المستبدة الظالمة، واتجهت نحو ألمانيا التي لا ترى بأسا في إدارة الدولة بالقسر الاستبدادي، فجنح بعض ساسة الإنجليز للأرمن ومالوا إليهم، وساعدوا جمعيتهم السرية الموجودة في لوندره، وأشار إليهم بعض رجال السياسة - كجلادستون - بالقيام والهيجان، حتى إذا حدثت في البلاد مذابح كمذابح البلغار، هاجت الأفكار العمومية في أوروبا، وتسنى لحكوماتها المداخلة في طلب الامتيازات لأرمينيا، كما حدث في البلغار والجبل الأسود والصرب، ويساعد على ذلك نص المادة الحادية والستين من معاهدة برلين، فقد جاء فيها ما معناه: «يتعهد الباب العالي بأنه يسرع في القيام بالإصلاحات والتحسينات التي تقتضيها حال البلاد الداخلية في الولايات الآهلة بالأرمن، وبحمايتهم من الجراكسة والأكراد، ويعطي الباب العالي في معظم الأوقات معلومات عن التدابير المتخذة في هذه السبيل للدول المشرفة على القيام بالإصلاحات.»
نامعلوم صفحہ