بعد أيام في الجامع كان الداعية الشهير يتحدث عن شرائطه بعنوان سيرة الرسول، حكى لهم أن سيدنا جبريل نزل على النبي الطفل ليختنه، وكانت هي قد قرأت عن الأضرار الطبية لختن الإناث والذكور، فسألته عن المرجع الذي يستند إليه في ختن النبي، فإذا به يزمجر غضبا ويطردها من الحصة قائلا: «إنتي قليلة الأدب، إزاي تسألي عن شيء يخص عضو الذكر عند النبي؟»
خرجت تبكي في الشارع مكسورة القلب تشعر بالذنب، غاب عنها النوم وفقدت شهيتها للطعام لأنه حرمها من لقائه، فأخذتها أمها إلى صديقة لها طبيبة نفسية شديدة الرحمة والفهم، شجعتها على البوح ... ذهبت إليه الطبيبة النفسية فإذا به ينكر كل شيء ويتهمها بالفساد والكفر، ساعدتها أمها والطبيبة على إجراء عملية الإجهاض، خلعت كوكب الخمار لكنها لم تملك الشجاعة لخلع الحجاب، سافرت مع زوجها بكري إلى الخليج للعمل في صحيفة الإسلام والإيمان، ثم عادا إلى مصر، فعينا في الجورنال بقرار جمهوري. - محفظتي نشلوها يا كوكب، لازم أرجع مصر الليلة عاوزة سلفة. - سلفة إيه؟ ده احنا أهل. - البلد بقت كلها لصوص. - سمعت عن القرار. - قرار إيه؟ - فصلك من الجورنال. - أنا نسيته يا كوكب. - شيء مؤلم يا فؤادة.
مع التيار
يرتعش صوت كوكب ألما وينسدل جفنها الأعلى مخفيا الفرحة، لا فائدة من الصدق في هذا البلد يا فؤادة، الفساد منتشر وخصوصا في الصحافة، رئيس التحرير يتلقى الأوامر بالتلفون كل يوم من السيد الرئيس، نصحتك كثير، قلت لك لازم تمشي مع التيار يا كوكب، لا يمكن أغير نفسي، المسألة مش نفاق يا حبيبتي، أنا زيك لا يمكن أنافق لكن مجرد ذكاء اجتماعي، صعد الدم إلى وجهها كل حاجة بقت مقلوبة يا كوكب، الصدق بقى غباء والنفاق بقى ذكاء. انزلق جسد كوكب قليلا إلى الوراء في المقعد، مدت ذراعها إلى جرس يتدلى من الجدار، ظهر السفرجي، بشرته سوداء مثل بشرة أهل أسوان أو السودان، يرتدي قفطانا قطيفيا أحمر من حوله فوطة بيضاء، تشربي إيه يا حبيبتي؟ وحشني كلامك الثوري، هات شربات الورد من الثلاجة يا عم عثمان، شكرا أنا لازم أمشي، تمشي من اسكندرية لمصر؟ - أمشي لإيطاليا كمان يا كوكب؟ - عارفاكي يا فؤادة تعملي أي حاجة.
أطلقت كوكب ضحكتها القصيرة كالشهقة المتقطعة.
أنا وبكري راجعين بعد الغدا، تتغدي معانا سمك مشوي وننزل مصر بالعربية سوا إيه رأيك؟ ظهر الزوج بكري في الشرفة، مرتديا روب دي شامبر حريريا لونه كلون البحر، يفوح منه عطر الحلاقة، صاح مرحبا بها، يحبها ويكرهها في آن واحد، واقفة ليه يا فؤادة؟ إذا حضرت الشياطين غابت الملائكة؟ - بالعكس يا بكري. - أنت الملائكة طبعا.
انطلقت الضحكات في الشرفة العلوية، جاء شراب الورد المثلج، ابتلعته جرعة واحدة مثل شربة زيت الخروع، اعتذرت عن الغداء وخرجت بعد أن أغلق الخادم الباب وراءها، أطرقت كوكب طويلا وهي تشعر بثقل في قلبها، نوع غامض من الهزيمة، رفضت فؤادة دعوتها، ربت زوجها كتفها: ما لك يا كوكب؟
مش عارفة يا بكري ليه أحيانا أحس فجأة بالحزن. يشير بكري إلى صورتها في الجورنال: تحزني ليه؟ صورتك في الجورنال، الوزير بيسلمك الجايزة، الأستاذ محمد أكبر مفكر عندنا يعتبرك الكاتبة الأولى في مصر والعالم العربي. ابتسمت كوكب في سخرية: كفاية عليه السيدة الأولى. تلعثمت ثم قالت: أنا فخورة إني باشتغل معاه رغم إني باحتقره. تتلعثم تتردد، تحاول كشف أعماقها لزوجها أو لنفسها: أيوه يا بكري، بصراحة أنا باحتقر المفكر والكاتب الكبير ده. شيء طبيعي يا كوكب. أنا متناقضة وانت بتحتقرني يا بكري؟ - التناقض أصل الكون يا كوكب، ربنا نفسه متناقض. - أستغفر الله العظيم! رجل مؤمن يقول الكلام ده؟
أنا مؤمن والحمد لله، لكن التناقض سنة الحياة، لا تحاولي جلد ذاتك، صديقتك فؤادة رفضت دعوتك بسبب الغيرة، أنت تصعدين إلى القمة وهي تهبط إلى القاع، وأنت متزوجة الكاتب المرموق أنا، وتشتغلين في أكبر دار صحفية في مصر والعالم العربي، فعلا يا بكري، أكبر جورنال في الشرق الأوسط، وأنا مخلصة في عملي، والأستاذ محمد يقدر شغلي، رغم أني أحيانا أسرق أفكار غيري وأعيد كتابتها، إيه الكلام اللي أنا بقوله ده؟ - أنا فاهمك يا كوكب.
ابتلعت دموعها، أحاطها بذراعيه وهمس في أذنها: أحبك يا كوكب كما أنت ولا يمكن أحب واحدة تانية. وضعت رأسها فوق صدره وتنهدت في راحة تعترف له بأشياء تخفيها عن نفسها، تشعر بحرية معه، ترفع عن قلبها العبء، لم تعد تشعر بثقل شيء، إلا صدره المغطى بالشعر الأسود الخشن يضغط نهدها الأيسر، أخذها إلى غرفة النوم، في السرير العريض صعدها، دخلها وخرجها بسرعة، ثم انقلب فوق ظهره مغمضا عينيه، قبل أن يسقط في النوم قال: على فكرة دعيت الأستاذ للعشاء الجمعة الجاية! - راجل عظيم؟! - أهم مفكر في مصر والعالم العربي. - بصراحة يا حبيبي أنا لا أفهم ما يكتبه! - يا كوكب ده فيلسوف عالمي.
نامعلوم صفحہ