أصبحت خيمتها في ميدان التحرير هي البيت والمسكن، كانت مرهقة من السير في التظاهرات، قلبها ثقيل، أمها نزفت حتى الموت، الآلاف من الشباب قتلوا بالرصاص، والآلاف ماتوا نتيجة التعذيب في المعسكرات، والآلاف فقدوا أبصارهم، كانت الرصاصة تنطلق من القناصة مباشرة إلى عيونهم، تختلط الجثث بعضها ببعض، لا تستطيع العودة إلى البيت ولا تريد أن تعود، خيمتها أصبحت بيتها، تتمدد فوق الأرض فوق كليم من وبر الجمال السميك، تتغطى ببطانية من الصوف الرصاصي، تطل من فتحة الخيمة إلى السماء، سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، الميدان هدأ قليلا بعد يوم عاصف، أنين المصابين يأتيها من مستشفى الميدان في الناحية الأخرى، فتحت عينيها في الظلمة، رأت طيف أمها جالسا عند باب الخيمة كأنما يحرسها، بدا الحلم حقيقة: ليه جيتي يا أمي؟ - قلقت عليكي يا بنتي. - الخيمة باردة عليكي. - الخيمة أدفا من البيت.
جلست في جوارها فوق الكليم، أحاطت كتفيها بشالها الأخضر، همست في أذنها، سامحيني يا أمي، كذبت عليك، كنت خائفة منهم، كنت في حاجة إلى أن أنسى، النسيان يشفي الألم لكن منذ أن رأيت دمها فوق الأسفلت بدأ عقلي يصحو وذاكرتي تعود، خافتة كالهواء، تتسرب قطرات ضوء من وراء سحابة سوداء، دم فوق الأسفلت في السجن، يشبه الدم فوق أسفلت ميدان التحرير، يشبه الدم فوق ملاءة السرير، دمي ودمك وكل الدماء المراقة أمام عيني، حياتي مرت مثل الحلم، الأرض في الميدان صلبة كالرخام، لا أشعر بالألم، جسمي شبه مخدر، ليلة باردة كالصقيع، أرقد فوق الأسفلت، البرودة لا تصل إلى جسمي، كبرودة البحر في الحلم أسبح فيه ولا أبرد ولا أغرق، مع أنني عارية ولا أعرف السباحة، صوتها كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة، أو تأتي من قريب وهي بعيدة، قد تأتي من السماء أو من بطن الأرض، أو من السقف، أو تأتي من كل الجهات كهواء يملأ الأذن، لكنه ليس هواء بل صوت حقيقي أسمعه، وامرأة حقيقية من لحم ودم ترقد في جواري على الأرض، غادرت أمي الخيمة، لا أعرف أين ذهبت، ربما إلى دورة المياه، لم يعد في مقدورها أن تحبس البول ساعات طويلة، ضعفت عضلات الحوض والمثانة، تتسرب القطرات من بين ساقيها قبل أن تصل إلى المرحاض، أردت أن أذهب معها إلى دورة المياه ، على بعد خطوات، عند البوابة الخلفية، لكن النوم غلبني، لم أرها في الظلمة وهي تغادر خيمتنا، تصورت أنها راقدة في جواري وأنا أحكي لها، لم أكن أحكي لك يا أمي، غيابك يشجعني على البوح، الثورة كسرت حاجز الخوف، كنت أخاف ألسنة الناس أكثر من الموت، ظل الخوف ينمو معي، عشت الجحيم فوق الأرض، والجنة لم تكن تحت قدميك بعد موتك، الأرض، الأسفلت تحت ظهرك العاري، كان الأسفلت صلبا باردا كالثلج في شهور الشتاء، جسدك كان ساخنا ملتهبا يحوط جسدا أكثر سخونة والتهابا، داخل رحمك، جسد آخر ينمو ويشرب دمك، تشربين السم وتشرفين على الموت، وتبقى هي في رحمك متشبثة بالحياة، تنتصر إرادتها على إرادتك، هل كرهت ابنتك لأنها جاءت إلى الدنيا بالرغم من إرادتك؟ لم ترغبي قط في الحمل، لكنها المصادفة؛ سقطت الحبة من يدك وأنت تضعينها في فمك، أشياء صغيرة مثل حبة من حبوب منع الحمل قد تفجر الكون، الكون حدث مصادفة، الانفجار الكبير، تحبل الأمهات مصادفة، الحب لا يحدث إلا مصادفة، كل شيء صادق يحدث مصادفة، الجرائم تقتضي التخطيط والتربص وسبق الإصرار، جاءك المخاض في الليل، كما يأتي الأمهات دائما في الظلمة، كتمت الأنين كي لا توقظي الجميع، لا يوقظ النساء في السجن أي صوت، تنام الواحدة منهن كالجثة الهامدة وهي تحلم بالموت، دسست في فمك طرف ملاءتك، ضغطت عليها بأضراسك تسحقين الصرخة، كنت راقدة على الأسفلت فوق ظهرك، فاتحة فخذيك، ضاغطة بيدك اليمنى على بطنك، على رأس الجنين، يتقلص جدار بطنك تحت كفك فتضغطين أكثر، يقل الألم بازدياد الألم، بيدك اليسرى تضغطين على الأرض، ترفعين جسمك قليلا، تضغط عظام ظهرك على الرحم، تكتمين الهواء في صدرك، ويضغط الهواء على بطنك، يختنق الجنين بالضغط، من فوق ومن تحت، يقاوم الاختناق فتشق المولودة طريقها برأسها الصلب، خارجة إلى الهواء عبر قناة المهبل، تتلوى فوق الأسفلت غارقة في الدم، قطعة لحم نازفة ساخنة من فلذة كبدك، تلفين جسدها الملتهب بالبطانية الصوف، تفوح منها رائحة السجن، مزيج من دموع قديمة ودماء جديدة، نحل صوفها الرخيص بمرور الزمن، تغير لونها من سواد الرصاص إلى حمرة الدم الجديد، ومن البياض إلى صفرة البول والدموع القديمة، في الصباح حملتها فوق صدرك، وضعتها في الطشت في غرفة التنظيف، جففتها بملاءة السرير، نظرت إلى عينيها الخضراوين وأطلقت زغرودة متحشرجة قصيرة، هي غير الصفارة الحادة الممدودة التي يسمونها الزغرودة، والتي تطلقها النسوة، بأفواههن وأنوفهن وأصابعهن، في الأفراح والمآتم.
في الصباح بحثت عنك في الخيام، في دورة المياه بالميدان، الرائحة هناك تشبه رائحة السجن، الظلمة شديدة، انزلقت قدمي في المياه الطافحة، كدت أسقط لولا سرعة جسمي الذي استعاد توازنه تشبثا بالحياة، الموت يتربص في هذا المكان، سرت في جسدي قشعريرة، أجسمك غارق في مياه المجاري، أم هو جسمي ممدود أمامي؟ لا أفرق بين جسدي وجسدك، لا أرى إلا بعض أجسام ملفوفة بالبطانيات من الرأس إلى القدمين، أصوات الشخير من الأنوف تختلط بأصوات الخرير من الصنابير، لم تكوني في أي مكان، الدنيا كلها خلت منك، كأنما مات الكون.
سعدية وفؤادة في السجن
تلقت أمي تربية في البيت والمدرسة يسمونها التهذيب، لا تفعل ما تفعله النسوة الأخريات، لا يدخل السجن إلا القاتلات أو المومسات أو الشحاذات أو المتهمات بتجارة المخدرات أو السرقة، غالبيتهن من الفقيرات المطحونات الحالمات بالجنة بعد الموت، لا يدخل السجن من النساء المتعلمات غير الحالمات بالجنة إلا القليل النادر، الجريمة غالبا تندرج تحت بند السياسة، والثورة لقلب نظام الحكم، كانت هي أيام الثورة، من أجل الحرية والعدل والكرامة، بعضهم يقول إنها انتفاضة وليست ثورة، والشباب بلطجية وليسوا ثوارا، والشابات عاهرات ولسن ثائرات، شارك أمي وأبي في الثورة، كان عمري أربعة شهور داخل رحمها وهي تسير مع المتظاهرين، تهتف معهم: يسقط النظام. رأسها شامخ مرفوع، طويلة القامة ممشوقة الجسم، تمارس رياضة الفولي بول والسباحة، انتفاخ الحمل تخفيه قوة عضلات البطن، تبدو في التاسعة عشرة، على الرغم من بلوغها الخامسة والعشرين، عقلها يكبر عمرها بعشرين عاما، أبي يسير في جوارها، لكن رأسها يرتفع عن رأسه ثلاثة سنتيمترات، عظام ظهرها مشدودة أكثر، بشرتها أشد سمرة تشوبها حمرة الشمس، ورث أبي بشرته البيضاء من أبيه وانحناءة خفيفة لفقرات الظهر، صلعة صغيرة مبكرة في منتصف رأسه، يسيران، يده في يدها، متساويين، كتفها إلى كتفه، لا تعلو كتفها إلا ثلاثة سنتيمترات، تجمع الملايين من الناس في ميدان التحرير الذي أصبح كالدار الكبيرة تضم مئات الخيام، انقضت عليهم عربات البوليس البوكس، حطمت خيامهم، حملت بعضهم إلى السجون، وسقط بعضهم الآخر بطلقات الرصاص، لم يعرف أحد من مات ومن اختفى ومن في المشرحة ومن في السجن، كان المشهد يتكرر، خرجت مع أمي من السجن، بلغت من العمر عامين، تعلمت المشي حافية القدمين على الأسفلت، لا أحس ببرودة الأرض أو بسخونتها، لا تخترق جلدي مسامير ولا قطع زلط، لا أبكي من جوع أو مغص، تتركني أمي أزحف أمام العنبر، ألتقط مع الطيور فتات الخبز أو حبوب الفول والعدس، أزقزق مع العصافير في الصبح، ترن ضحكتي في فناء السجن، تتجمع المومسات من حولي والقاتلات وبائعات المخدرات والشحاذات وكل المسجونات، تحملني كل واحدة فوق صدرها وهي تضحك، أحس بالأنين تحت ضلوعها، عرفت دقة الفرح في الصدر من دقة الحزن، قبل أن أبلغ الثالثة من عمري!
حملتني أمي فوق صدرها لدى خروجها من السجن، خرجت معنا امرأة كانوا يسمونها سعدية القتالة، طويلة القامة سمراء البشرة تكاد تشبه أمي، في السجن ولدت ابنتها، أناديها هنادي وتناديني داليا، كنت ألعب معها على الأسفلت، أمي وأمها تتحدثان كأنهما صديقتان، أمي تناديها سعدية وهي تنادي أمي الأستاذة، بلاش حكاية الأستاذة دي يا سعدية. - يا ست فؤادة، العين ما تعلاش عن الحاجب. - عين إيه وحاجب إيه كلنا ولاد تسعة. - ولاد بس؟ وفين البنات؟ - غلبتيني يا سعدية. - عليكي واحد يا أستاذة.
وتدوي قهقهاتهما في أرجاء السجن ناشرة عدوى الضحك بين النساء.
في مكتب السجان تدوي الضحكات، تهتز أرجل الكرسي تحت أليتيه السمينتين من طول الجلوس وراء المكتب، وأكل الدهن والمداهنة، فوق رأسه تهتز الصورة داخل البرواز، تتقلص عضلات الوجه المربع، ينتصب شعر رأسه المصبوغ بلون أسود كالليل. - إيه اللي بيحصل ده؟ - مافيش حاجة يا معالي الباشا. - أنا سامع هتاف ضدي يا حمار؟ - شوية نسوان بيضحكوا يا فخامة الرئيس. - كده؟ طيب سيبهم يتسلوا.
خرجت سعدية وابنتها من السجن إلى غرفة في الزقاق وراء القبور، كانت تعيش في هذه الغرفة مع زوجها قبل أن تقتله، ناولتها أمي ورقة صغيرة كتبت عليها عنوان بيتنا، أصبحت سعدية تأتي إلينا كل يوم من الساعة السابعة صباحا إلى الخامسة مساء ما عدا الجمعة وأيام الإجازات، تقول عنها أمي إنها شغالة محترمة وليست خادمة، كانت أمي تسكن في شقة صغيرة بعمارة جديدة في شارع التحرير، كان اسمه شارع الملك ثم تغير الاسم مع تغير الزمن، استأجرت أمي هذه الشقة قبل أن تتزوج أبي، عادت إلى عملها في الجورنال بعد خروجها من السجن، كانت لي غرفة فيها سرير من الخشب، لونه بني أدكن، وخزانة ملابسي ومكتبي من اللون ذاته، فوق الجدار صورة لرجل له شارب أسود، عيناه خضراوان لامعتان، تطلان من تحت جبهة عالية وحاجبين كثيفين، شفتاه مطبقتان بعضلات قوية تنم عن الإرادة والتصميم، كانت أمي تقول إن أبي كان في عداد الثوار، لكن. لكن إيه يا ماما؟
تسكت أمي، تبتلع دموعها في صمت، أرهف أذني لصمتها، أحاول أن أعرف من هو أبي وماذا كان؟ أتأمل ملامح وجهه في ضوء النهار، في الليل أحدق إلى صورته تحت ضوء اللمبة، تتغير النظرة في عينيه مع تغير الضوء والمكان الذي أقف فيه، أمام خزانة الملابس أو وراء مكتبي، تبدو نظرته قوية ثائرة مستقيمة، وأحيانا تبدو هادئة ملتوية مستكينة، بلغت الثامنة من عمري، يوم دق جرس الباب، عرفت أنه أبي الذي يدق الجرس؟ كيف عرفت؟ لم أره في حياتي ولم أسمعه يدق الجرس، لم تصف لي أمي طريقته في دق الجرس، أبي يدق الجرس؟
نامعلوم صفحہ