إن من يراها وهي جالسة في الظلام في تلك اللحظة يندهش. عضلات جسدها مشدودة كالمصلوبة، وعيناها السوداوان ثابتتان فوق خطوطها، ورأسها فوق عنقها ثابت، وذراعها ثابتة، وأصابعها حول الفرشاة ثابتة، وساقاها وقدماها ثابتة كتمثال من الجرانيت.
كم من الوقت يمضي وهي على هذا الحال. لا أحد يدري. قد ينقضي الليل كله وهي جالسة لا تتحرك، لا تضيف خطا واحدا إلى اللوحة، لكن عينيها لا تتحولان عن خطوطها، تعيش حياتها مرة أخرى، وتشهد لحظات عمرها وهي تمر أمام عينيها لحظة بعد لحظة، كشريط سينمائي.
وقرب الفجر، تمتد يدها بالفرشاة، تحركها فوق اللوحة، تغير الخطوط وتصنع في حياتها لحظات أخرى، لحظات جديدة هي التي تصنعها بإرادتها، بتلك الحركة الإرادية فوق الورق، في أي اتجاه وفي كل الاتجاهات، حركة قوية حرة، تحطم بها الإرادات الأخرى، وتصنع بنفسها خطوط حياتها، وشكل ملامحها، وتجعل عينيها أكثر سوادا، وأنفها أكثر حدة وارتفاعا، وشفتيها مزمومتين في غضب أو إصرار أشد.
حين تشعر بالتعب، تترك جسدها يسقط، ويستلقي ممدودا فوق السرير الصاج. يرتجف من البرد تحت الباطنية البالية الوحيدة، تشدها فوق رأسها ومن حول قدميها المثلجتين، وتصطك أسنانها، بذلك الصوت المتقطع الخافت كصوصوة عصفور وليد سقط من عش أمه في أرض عراء ينتفض الانتفاضات السريعة، وعيناه الصغيرتان الدامعتان تلمعان في الظلام بالنظرة اليتيمة المذعورة.
وجرت الدمعة الساخنة من زاوية عينها فوق الوسادة، أحست رطوبتها الدافئة تحت خدها، وأطلت برأسها من تحت الغطاء لترى أمها، الوجه الطويل النحيل كوجهها، والعينان السوداوان الواسعتان، والصدر ذو الدفء السخي. دفنت رأسها في صدر أمها تتشممها، وتبحث في جسدها عن فتحة أو تجويف يحتويها، تكمن فيه بعيدا عن العالم، بعيدا عن القوى المتربصة بها، تقبع كالجنين الآمن، وحنين غريب عنيف للأمان يرج جسدها، حنين للتكور داخل الرحم، داخل الطمأنينة، داخل السكون بغير صوت وبغير حركة. والتفت ذراعا أمها الكبيرتان حولها بقوة غريبة، تشدانها إليها مرة أخرى، وبكل قوتها تحاول أن تجعل جسديهما شيئا واحدا، بلا جدوى فالانفصال الأبدي حدث في لحظة مضت ولن تعود.
بهية! رن الصوت في أذنيها ففتحت عينيها. لم تجد أحدا، وضوء الشمس ينفذ من شيش النافذة المتآكل. وسمعت الطرقات البطيئة التي تأتيها كل صباح من وراء الباب، ورأت الشيخ العجوز بعمامته وقفطانه، والعينين الرماديتين ذاب سوادهما في بياضهما، والأصابع الغليظة السمراء من حول السبحة الصفراء تتحرك بسرعة وانتظام كالرعشة الدائمة، تماثلها رعشة أخرى في شفتيه الرفيعتين الصفراوين، تهسهس وتبسمل وتبسبس بكلمات مبتورة وحروف لا يسمع منها إلا حرف السين طويلا وممتدا كأنه صفير يصاحب الشهيق والزفير.
حين رآها اتسعت الفرجة بين شفتيه الجافتين وظهرت أطراف أسنانه الصفراء المتآكلة، وهمس بصوت كفحيح ثعبان نائم: «هل صحيت؟»
ردت بصوت ضجر: لأ. وأغلقت الباب. سمعت أنفاسه تهسهس من خلف الباب. في زمجرة خافتة، ذكر عجوز ذبح الدخان صدره، ونزف عمره في فراش أربع زوجات باردات عفيفات أنجبت كل واحدة منهن عددا من الأولاد والبنات، مات نصفهم وتزوج النصف الآخر، ولم يبق معه من زوجاته إلا امرأة عجوز تتسند على الجدران، وتصنع له الشاي أسود، وتعد الجوزة في المساء، وعلى السرير الخشبي الكالح يرقد إلى جوارها، ويدس أصابعه الغليظة بين ثدييها المترهلين، ويهتز جسداهما الضامران اهتزازات واهية، وأنفاسهما الباردة ذات الرائحة الراكدة تلفحها نفحة دفء خافتة، سرعان ما تتلاشى كحشرجة الاحتضار الأخير، وتتركهما فوق السرير الخشبي العتيق كالجثتين الهامدتين.
تلف اللوحة بالورق، وتدلف من الباب الخشبي الصغير بجسمها الطويل الممشوق، وساقيها المشدودتين داخل البنطلون، وتسير في الحارة، القدم تدب وراء القدم، والساق تنفصل عن الساق بمسافة كبيرة مرئية، تحملق فيها عيون رجال الحارة في الدكاكين، وعيون النسوة من فرجات الأبواب وشقوق النوافذ. امرأة هي أم رجل؟ لولا النهدان الصغيران النافران تحت البلوزة لأقسموا أنها رجل. وما دامت هي امرأة فقد أصبحت الحملقة مشروعة، وأصبح جسدها نهبا للعيون الجائعة المحرومة، يبحلقون، ويتهامسون ويتجرأ أحدهم فيضحك شاهقا بصوت داعر، ويعلق آخر بلفظ ناب، ويتشجع أطفال الحارة فيجرون وراءها، يتراقصون بأردافهم، ويكشف الصبيان منهم عن عوراتهم، ويقذف أحدهم بحجر من خلفها، ويضع الآخر يده في فمه ويصفر صفارة طويلة، ويقهقه الرجال الجالسون على المقهى بأصوات مبحوحة ويخبطون أفخاذ بعضهم البعض بكفوف خشنة مشققة كالأرض الظمأى، وتضرب النسوة على صدورهن المتهدلة من خلف النوافذ شاهقات بتلك البحة الأنثوية المكبوتة إلى الأبد: شوفوا الخوجايا!
تشق طريقها بين النظرات والضجيج والتعليقات النابية، ترفع عينيها السوداوين إلى أعلى، وتزم شفتيها في غضب يتحدى القدر. وحين يختفي جسدها في الشارع الواسع تعود الحارة إلى حياتها الطبيعية، وترتفع طلقات الحديد من دكان السمكري، وطرقعات الأكواب والطاولة في المقهى، وصياح الأطفال والصبية وشجار النسوة من وراء الشقوق، وأصوات الرجال الخشنة تقسم بأغلظ الأيمان وبالطلاق بالثلاثة، وتتصاعد رائحة السمك المقلي والفلافل والكشري، وتتراقص حبات السبحة بين أصابع الشيخ العجوز، ويفترش سجادة الصلاة أمام النافذة، وحين يركع يحتك جسده بصوف السجادة فتجتاحه الرغبة المكبوتة، وتطل عيناه المتآكلتان على الحارة تترقبان ظهور أي جسد ملفوف.
نامعلوم صفحہ