أول يد تلتف حول يدها، كفه بحجم كفها وأصابعه طويلة رفيعة كأصابعها، يد حقيقية بلحمها ودمها، تسري حرارتها في كفها وتؤكد حقيقتها لأنها من نفس الحرارة يدها، وحركة الدم في عروقها لها تحت الجلد ذبذبة، كذبذبة النبض فوق معصمها، وكذبذبة الأرض تحت قدميها، والهواء من حولها.
حملق في عينيها السوداوين المتسعتين بذعر لا يحدث إلا عند الإحساس بالخطر، فاتسعت عيناه بذعر مشابه، لكنه تدارك الخطأ بسرعة، فعادت عيناه إلى حجمهما المألوف، واجتازا في نصف دقيقة ما يجتازه الرجل والمرأة للتعارف في نصف قرن.
قال لها: أهنئك على المعرض.
احمر وجهها بخجل مفاجئ، وتلعثمت: لا زلت في البداية.
لم يكن بالمعرض إلا ثلاثة أو أربعة طلبة. كانوا في الكلية بالآلاف، ولكن ماذا يهم طلبة الطب في معرض للرسم؟ بماذا تفيدهم لوحة أو قصة أو قطعة موسيقى؟ لا شيء يهم إلا المشرحة والمحاضرات التي تحفظ وتدون في ورقة الامتحان، ثم تتسرب من الذاكرة من بعد.
وقفا أمام لوحة واحدة متجاورين. قامته طول قامتها، وكتفه بحذاء كتفها، وذراعه بحذاء ذراعها، وساقه بطول ساقها. لم يكن يفصل بينهما إلا مسافة صغيرة. مسافة من الهواء لا تزال تمر بينهما وتفصل جسديهما. مسافة طويلة بطول قامتها لكنها رفيعة كالشعرة. شعرة من الهواء، ورغم كونها هواء، بل لأنها هواء، فهي مسافة عازلة من مادة أخرى غير مادة جسديهما، ورغم كونها رفيعة جدا، بل لأنها رفيعة جدا، فهي حادة جدا كحد السيف تفصل الجسد عن الجسد وتقطع اللحم.
دهشت الدهشة نفسها التي تحدث في الأحلام، حين تحدث أكبر الأحداث في ثوان ويقابل الإنسان الغرباء فيعرفهم، والأموات فيصافحهم، ويطير في الجو بذراعيه وساقيه، ويغوص إلى قاع البحر دون أن يغرق، ويمشي على الحبل الرفيع دون أن يسقط، وتنهدم البيوت في ثانية، وتنبني البيوت في ثانية، ويصبح أي شيء ممكنا وفي غمضة عين.
تعودت على هذه الدهشة في أحلامها، ولكنها الآن يقظة، عن يقين. حاولت أن تتأكد من يقظتها اليقينية ولكنها عجزت، فليست هناك وسيلة مضمونة للتأكد أكثر من أن تلمس جسدها، ولكنها تفعل ذلك في الأحلام أيضا حين تتشكك في نومها. وهذا العجز يرعبها، فهي غير قادرة بحال من الأحوال على التأكد من شيء في حياتها، إن محاولة التأكد لا تفعل شيئا سوى أن تزيد شكوكها.
عيناه السوداوان كانتا ثابتتين فوق اللوحة، واللوحة سوداء كالليل الدامس، فيه نقط بيضاء تبدو كالنجوم، لكنها ليست نجوما، وإنما هي فصوص صغيرة من الماس، ولكنها ليست فصوصا، وإنما هي عيون صغيرة تلمع بدموع شفافة، ليست عيونا، وإنما هما عينان صغيرتان في وجه الطفل النحيل الشاحب، يسير في الشارع وحده، أصابعه الصغيرة حمراء متورمة من طرف المسطرة الحاد، عشرون مرة فوق كل أصبع، بسبب الحقيبة المفقودة. الرجل الكبير ذو الشارب الطويل شده من ذراعه في ثنية الشارع فوقعت الحقيبة على الأرض، وبذراعيه الصغيرتين وساقيه كان يضرب الساقين الكبيرتين، لكنهما كانتا قويتين مفتوحتين كفكي القدر، وهو بينهما منكفئ بوجهه فوق الأسفلت بجوار الجدار، ومن فتحتي أنفه يسيل خيط رفيع من الدم تجلط بعد فترة قبل أن يراه أبوه. لكن أباه نظر في عينيه وأدرك من الشحوب أن الدم لا زال ينزف، ففتش عن الجرح بين ذراعيه، وبين ساقيه، وحين رأى الدائرة الحمراء واضحة كقرص الشمس رفع كفه الكبيرة في الهواء وصفعه على وجهه.
لمحت اللمعة السريعة فوق عينيه، وعضلة صغيرة تحت عينه اليسرى ترتجف. فأشارت إلى اللوحة الأخرى، لكنه سألها بصوت خافت: كنت تبكين وأنت طفلة؟
نامعلوم صفحہ