ایمان و معرفت و فلسفہ
الإيمان والمعرفة والفلسفة
اصناف
ولهذا أيضا تطورت الفكرة المسيحية في قداسة الزوجية. فبعد أن كان الزواج عقدا بين زوجين لا انفصام له ما بقيا، على اعتبار أن هذه الوسيلة هي الوحيدة التي تضمن توازن الاجتماع، تطورت هذه الفكرة بتطور الزمان، وبحكم الضرورة الاجتماعية، واضطرت الكنيسة أن تدخل إلى شريعتها فكرة الانفصال بين الزوجين. ثم أدخلت القوانين المدنية نظرية الطلاق. وكذلك قضي على الفكرة الأولى بعد إذ كانت آية من آي الاجتماع في العصور الماضية، ولقد صاحب هذا التطور في الإيمان بفكرة العائلة تطور آخر يختص باعتبار المرأة وتقديرها. ذلك أنه لما كانت رابطة الزوجية الأولى عقدة لا انفصام لها تقضي بوجود المرء وزوجه معا طول الحياة، عمل في هذه الرابطة قانون الطبيعة العام، قانون التنافس وسيادة الأصلح والأقوى، النفس الاجتماعية فكرة تحقير المرأة. والنفس الاجتماعية تشمل نفوس الرجال والنساء معا؛ لذلك كانت المرأة المسيحية في الأزمان الأولى محتقرة في عين الرجل وفي عين نفسها. فلما بدأ إحساسها بوجودها يتكون بدأت أيضا فكرة القداسة لرابطة الزوجية تتبخر وتتطاير، فلم يبق في الأذهان والعقول إلا ذكراها.
مثل هذه التطورات حصلت في كل الوحدات الإيمانية، وهي - كما قدمنا - النظريات التي يحس بها الضمير العام كضروريات اجتماعية لا غنى عنها لحفظ كيان الجمعية وحسن توازنها. والتطور تقدم أو تأخر وليس سكونا؛ لأن السكون والحياة لا يجتمعان. إذن فمحل كل وحدة إيمانية تتطور تحل وحدة أخرى لتصل؛ لتكون جزءا من مجموع النظريات التي يؤمن بها المجموع؛ ولكن على مقدار رقي هذا المجموع وانحطاطه يترتب بقاء هذه النظريات جامدة أجيالا من الدهر، أو يتسرب الشك إليها بين حين وحين.
وهذه الوحدات الإيمانية تدخل إلى نفس الفرد من يوم وجوده وسط الجماعة، وتتكون معه وتبلغ أشدها متى بلغ هو أشده وتصبح بذلك - قسما منه يسميه الناس ضميره. فضمير الفرد هو انعكاس الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجماعة على نفس الفرد، وهذا الانعكاس يحصل حتما؛ لأن حياة الفرد واغتباطه معلقان على اغتباط الجماعة في حياتها. فهو مكره على احتمال كل ما تتصوره الجمعية من ضرورات الوجود بالنسبة إليها .
هذا الانعكاس لقواعد حياة الجماعة في نفس الفرد يكون عنده إحساسا خاصا بأن مخالفته لهذه القواعد تجر عليه جزاء محتوما. وهذا الإحساس ناتج من إيمانه بضرورة هذه القواعد لحفظ كيان الجمعية، وأنه هو قسم من هذه الجمعية يتأثر بما تتأثر هي به في جهة الخير أو الشر؛ فلما كانت الجمعية تؤمن بالقوى التي فوق الطبيعة، وتعتقدها مصرفة للمطر والبرق والرعد والصواعق انعكس إيمانها هذا في نفوس الأفراد، وأصبحوا يحسون أمام هذه القوى بعبودية خاصة تستتبع استرضاء كل فرد لها، وإلا حل به الجزاء. كذلك لما كانت فكرة الأسرة والزوجية إحدى وحدات إيمان الجماعات، كان هناك في نفس كل فرد شعور خاص بأن مخالفة هذه الفكرة يجر حتما أوصابا ومصائب لا نهاية لها، وهكذا كانت كل وحدة إيمانية اجتماعية تبعث إلى نفس كل فرد نوعا من العبودية أمامها والتقديس لها، والاعتقاد بأن مخالفتها تؤدي إلى بوار كبير. وهذا هو الأساس التي بنيت عليه فكرة المسئولية في نفس الأفراد.
هذا التحليل لفكرة المسئولية يوضح السبب الذي يجعل هذه الفكرة معقدة ودقيقة. فإنها ترتكز على أدق مظاهر الإنسانية نعني بها الضمير الفردي القائم كما بينا على أساس وحدات الإيمان، التي تكونها ضرورات الحياة الاجتماعية. فمن أجل تفهم فكرة المسئولية يجب تفهم معنى الضرورات الاجتماعية، وطريق انعكاسها في نفس الفرد، وكيفية تكوينها لضميره الذي هو مصدر إحساسه بالمسئولية. ولما كانت فكرة الضرورات الاجتماعية التي هي أساس كل هذه النتائج تحتاج في تفهمها إلى التدقيق، وتحليل الوحدات الإيمانية، وكان هذا التحليل يستدعي افتراضات وشكوكا تتنافى مع طبيعة الإيمان، لجأ الأكثرون إلى نعيم الاغتباط والاستسلام، وضل آخرون في تيهاء الشكوك المنطقية، وجعلوا يتلمسون لفكرة المسئولية أسسا غريبة ترجع إلى طرق تعليمهم. فبينا يقول جماعة: إن أساس المسئولية حرية الإرادة، واختيار الفرد لأعماله في الحياة يقول آخرون: إنها مظهر من مظاهر الضمير على اعتبار أن الضمير وحدة قائمة بذاتها تخلق مع الفرد يوم يخلق. ويقول البعض: إنها فكرة العدالة. ويقول غيرهم: إنها منعدمة وإنما أوجدتها الضرورة الاجتماعية . ويقول غير هؤلاء وأولئك أقولا يشعر الإنسان أنها لم تصدر عنهم، يريدون بها الوصول لتحليل فكرة بالذات مخلصين لها بحثهم، ولكنها قيلت كمقدمة لغرض ثابت في نفوسهم يريدون الوصول إليه. وذلك شأن الكتاب الدينيين، وشأن بعض علماء القانون الجنائي الأقدمين، وشأن فلاسفة المنطق المجرد. ولكن التعمق في البحث والتحليل، واتخاذ الوقائع والحوادث الاجتماعية ومظاهر الوجود الفردي مواضع للملاحقة والاستنتاج، تبين لنا ما تحويه هذه الأفكار من نقص أو خطأ، وتدلنا دلالة واضحة أن المسئولية أثر ونتيجة للقوانين الطبيعية، التي تحكم حياة الجماعات وتصرف حياة الأفراد، فلا وجود لها في الحياة بذاتها، وإنما هي فكرة مجردة معلق قيامها على تفاعل هذه القوانين واحدا بعد الآخر طبق النظام الذي سبق بيانه.
والذي يوضح ما سبق ويؤيده ما نلاحظه في العالم الحيواني، فإن الحيوانات الانفرادية كالذئاب الضارية والأسود لا يدخل في طبيعة تركيبها شيء من معنى المسئولية أمام الموجودات الأخرى. وأدنى ما عندها الفتك بكل ما يقترب منها، ولو كان من بني جنسها. أما الحيوانات الأليفة والحيوانات التي تعيش أسرابا فإن فكرتها الاجتماعية تدخل إلى نفسها شيئا أشبه ما يكون بالمسئولية. وذلك ظاهر كل الظهور في بعض الدويبات الصغرى، إذ يشعر كل واحد من أفرادها كأن له حقوقا على الآخرين وعليه واجبات نحوهم، فهناك في خلايا النحل يلاحظ الناظر شبه مملكة يقوم كل فرد من الأفراد فيها بعمل خاص، يقتضيه نظام حياة الجماعة. فكما أن وظيفة ملكة النحل التناسل، ووظيفة ذكر النحل تلقيحها فوظيفة النحل العامل استجلاب الشمع والعسل لبناء الخلية ولغذائها. وفي كل خلية ملكة واحدة يقوم بتلقيحها ذكر النحل، فإذا تم واجبه من ذلك قتلته، فإذا صادف وجود ملكة أخرى هناك اقتتلتا حتى تقضي واحدة منها على الأخرى. ويبقى النحل العامل أمام هذه المعركة الناشبة بين الملكتين متفرجا لا دخل له فيها بشيء مطلقا؛ ذلك لأنه يشعر بفطرة الحياة فيه أن من الواجب لوجود الجمعية التي هو منها قيام ملكة واحدة في المملكة التي هي الخلية. وهو يشعر أيضا أن الملكة الغالبة هي الأصلح لحياة جمعيته، فيجب إذن ترك الملكتين تقتتلان كما تشاءان حتى تموت إحداهما. وكل واحدة من النحل العامل تقدم على الاشتراك في المعركة تلقى من غيرها ما لا تحب. وظاهر أن هذا نوع من الإحساس بالمسئولية قريب الشبه بإحساس جماعة البربر من بني آدم.
ومما يلاحظ على النحل يلاحظ على النمل. فإن طبقاته المختلفة تحس بما عليها من الواجبات، وبما لها من الحقوق إحساسا مرتبطا كل الارتباط بحياة الجمعية التي هي منها، فالنمل العامل يجد الصيف في اكتناز القوت لنفسه، وللأنثى التي تعمر القرية. وبعضه يقوم بوظيفة تربية ديدان النمل والمحافظة عليها مخافة الخطر. وهو يضحي من أجل ذلك كثيرا من راحته، بل قد يضحي حياته حتى لقد شوهد بعض النمل حاملا ست ديدان ومسرعا يطلب قوته، وذلك برغم انقصام ظهوره، ولم يشعر بالألم الذي جر عليه حتفه إلا بعد أن قام بالواجب الذي تطالبه به حياة الجمعية التي هو منها.
وإذا نحن ارتقينا في السلم الحيواني إلى درجة أعلى من النحل والنمل، تبين لنا ما نقره بشكل جلي واضح. فبعض الحيوانات التي تعيش مع الإنسان كالفيلة مثلا يتكون عندها إحساس الألفة لشخص دون آخر، ويخيل للإنسان حين يراها مع صاحبها كأنها تشعر بأنها جزء من مجموع المنزل الذي تقيم فيه عليها واجبات ولها حقوق. ولقد بلغ من شعور الناس بذلك حتى قرروا عليها جزاءات توقع حين ارتكابها هفوة من الهفوات، كما يوقع الجزاء على مذنب من بني آدم. ومعنى ذلك قطعا أن هذه الحيوانات تعتبر مكلفة باتباع النواميس التي تكون في النفس العامة اعتقاد ضرورتها للاجتماع. على أن هذا المعنى الذي بيناه يتضح أيضا من اعتبارات الناس لدرجات المسئولية، فإن اختلاف الأشخاص في درجات المسئولية يرجع إلى مقدار صلاحيتهم أو عدم صلاحيتهم لحياة الجمعية. فالمجرم الذي يقصى عن الناس طول حياته، هو ذلك الشخص الذي ارتكب ما يجعله غير أهل للمعيشة بين الناس من قتل أو قطع طريق أو سطو أو نحو ذلك، وأما الأشخاص قليلو الخطر على الجمعية، فتوقع عليهم جزاءات توازي مبلغ خطرهم كثرة وقلة، وتقدير هذا الخطر راجع دائما إلى ما يضعه الرأي العام من القواعد لحسن نظام الجمعية. وهذه القواعد هي الوحدات الإيمانية التي وصفناها. ولو أنك افترضت شخصا يعيش عيشة الوحدة منقطعا في جزيرة يجد فيها ما يعوله، لما استطعت أن تفترض له شيئا مما نسميه نحن الضمير، ولا أمكنك أن تتصوره شاعرا بأية مسئولية، فإن كل ما تكلفه إياه فطرته إنما هو الاحتفاظ بحياته، فإذا لم يكن على هذه الحياة خطر، ولم يكن في المحيطات به ما يطالبه مطالبة خاصة بعمل خاص، فإنه يقضي أيامه في سكينة البله ونعيم الغفلة راتعا وسط السعة التي حبته إياها الطبيعة. ولا تحسبه حينذاك مفكرا في شيء، أو حاسبا حساب أمر من الأمور. ولكن في اليوم الذي يجد له مشاركا يناقشه الحساب، ويقول له: ذلك لك وهذا لي وكما اعتديت علي يجب أن أدفع العدوان بالعدوان؛ في ذلك اليوم يبدأ يفكر في طريقة تضمن له طمأنينته الأولى من غير احتياج للنزاع الدائم مع جاره وشريكه. وهذه الطريقة هي قواعد حفظ الأمن والنظام. وهي هي أساس حياة الجمعية، والأصل الذي تبنى عليه في النفس فكرة المسئولية. فالمسئولية أثر ونتيجة لحياة الفرد في الاجتماع، وليس لها وجود مستقل في نفسه.
قد يظن البعض من قولنا: إن فكرة المسئولية يستمد أساسها من الضمير الفردي، الذي تكونه الوحدات الإيمانية الاجتماعية بانعكاسها فيه، ومن مثل الشخص الذي يعيش عيشة الوحدة، فلا يكون له ضمير ولا يشعر بالمسئولية - إن فكرة المسئولية فكرة صناعية خلقها الاجتماع، وليست طبيعية في الفرد من حين خلقه. ولكن هذا الاعتراض لا يكون وجيها إلا عند الذين يحسبون الفرد وجد وجودا مستقلا، وأنه اتفق مع أمثاله على ما سماه روسو العقد الاجتماعي، فخلقوا الجمعية. وهذه الفكرة الأخيرة فكرة تصورية بحتة تخالف نواميس الطبيعة أشد المخالفة؛ لأن الإنسان مدني بطبعه. وليست الوحدة والانفراد من غرائزه مطلقا. والشخص الذي يستوحش ويخرج عن الجماعات ويعيش متبتلا منقطعا لشخص مختل التوازن العقلي قطعا، وهو حيوان نادر الوجود؛ لذلك فلا يمكن أن يبنى عليه حكم مطلقا. أما الإنسان الطبيعي فهو مخلوق اجتماعي فيه كل الصفات والقوى اللازمة؛ لتؤهله للحياة مع بني جنسه، وتظهر هذه الصفات والقوى رويدا رويدا على قدر اشتباكه مع الحياة الاجتماعية، وأخذه منها بنصيب. وعلى ذلك تكون جرثومة المسئولية وبذرتها موجودة مستكنة في النفس الإنسانية من يوم خلقها، ومنتظرة احتكاكها بالعوالم الخارجية وبنظام الجمعية؛ لتظهر ويشعر الفرد بها. لكن هذا الاحتكاك بالذات هو الذي يوجه فكرة المسئولية وجهتها، ويرسم لها الطريق الذي تسير فيه لتحكم صاحبها بعد ذلك على نمط معين. وهذا هو السبب في اختلاف فكرة المسئولية كما وكيفا في الشعوب المختلفة والأزمان المختلفة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتطبيقات هذه الفكرة عمليا. بل إنك لتجد في مثل البلاد المستحدثة مدنيتها التي تضرب فيها الفوضى، وتجعلك ترى في المدينة الواحدة، بل في القرية الواحدة أنواعا شتى من المدنيات المختلفة ميدانا فسيحا للملاحظة في هذا الباب. فإن فكرة المسئولية تختلف في الأفراد أنفسهم من جهة كمها وكيفها بشكل غريب. فأنت إذا وقفت على باب مسجد من المساجد في إحدى مدائن مصر، وكلفت نفسك مؤونة محادثة شيخ من أهل الورع الداخلين بيت الله يؤدون له الفريضة، وكان هذا الشيخ من أكبر علماء عصره رأيته ينكر أشياء ويقر أخرى، وينحي باللائمة على قوم ويرطب لسانه بالثناء على قوم غيرهم، وهو في كل ذلك يحكي لك عن عقيدة وإيمان، فإذا تركته وتركت المسجد وانحدرت إلى حان نظيف، وقابلت بعض المتعلمين من إخوان المدنية الأوروبية وحادثته في الموضوعات التي حادثت فيها صاحبك الشيخ رأيت بينهما بونا بعيدا. رأيت الثاني يذم مادح الأول ويمدح ما ندد به. وليس ذلك إلا صورة الجمعية انطبعت في نفس كل منهما بشكل خاص، فكونت فيه وحدات إيمانية خاصة جعلته الشخص الذي رأيت، وكونت في نفسه فكرة المسئولية على النحو الذي رأيت، فكأن هذه البذرة الأولى الموجودة في النفس الإنسانية بفطرتها المدنية إنما يكيف ظهورها ونموها وشكلها العقائد الاجتماعية، التي توضع في النفس التي تحوي البذرة في وسطها.
بل إن الشكل الذي تأخذه فكرة المسئولية في نفس الفرد يتحور تحورا عظيما بانتقال الفرد نفسه من وسط إلى وسط آخر. وكم رأينا من شيوخ كانوا مثال التقوى انطبعت في نفوسهم وحدات الدين الإيمانية انطباعا، فلما انتقلوا إلى أوروبا وإلى وسط آخر تختلف عقائده عن عقائد تداعت في نفوسهم مبادئ ووحدات قديمة، وصرت ترى فكرة المسئولية التي هي مجتمع عقائد كل فرد وعاداته تغيرت تغيرا سمح لهم بمناصرة ما كان في نظرهم من قبل جرما وإثما.
نامعلوم صفحہ