ایمان و معرفت و فلسفہ
الإيمان والمعرفة والفلسفة
اصناف
فإرادة الواحد منا لا تتحرك من نفسها، بل إجابة لمؤثرات خاصة تستثير منها الحركة. وهذه المؤثرات هي الأشياء الخارجية التي تمر بأجهزتنا وتحركنا. وحركتنا التي نعتقدها اختيارية صرفة ليست إلا نتيجة تأثر الأجهزة والتيارات التي تحركت بانعكاس الحوادث والأشياء الخارجة عليها. وغاية الأمر أن هذا الانعكاس إما أن يقابل أجهزة معدة لتلقيه، فتتأثر به مسرعة وبذلك ينتقل أثره سريعا ويحدث الحركة، وهذا ما يحصل حينما تكون الحوادث والأشياء مما اعتادت أجهزتنا وتياراتنا تلقيه وإصداره. ومعلوم مما سبق أن التكرار يورث العضو أو الجهاز الذي يحدث فيه قوة ومتانة وسرعة. وهذه الانعكاسات المتواترة هي ما نسميه بالعادات. وإما أن يقابل تلك الانعكاسات أجهزة قليلة الاستعداد لهذا التلقي والإصدار. فحين ذاك تخترق الصورة حجب تياراتنا مترددة، وعلى مهل كما يخترق شعاع النور الضئيل غرفة من خلال زجاج غير شفاف. نرى هذا الشعاع كأنه تائه وسط الغرفة لا يستقر في مركز من الحائط المقابل، إلا بعد أن يزداد مصدره قوة وثباتا. هنالك يستقر أخيرا ويثبت. كذلك الصورة المنعكسة على أجهزتنا التي لم تتعود تلقيها وإصدارها تجد من هذه الأجهزة ارتباكا في نقلها إلى التيارات المعدة لنقلها إلى مركز الحركة، الذي يسمونه مستقر الإرادة. وفي أثناء هذا التردد تنهال علينا عاداتنا القديمة، وتذكاراتنا الماضية وتعاليمنا الخاصة وحالنا الوراثية، وما نحن فيه من صحة ومرض، وظروف الوقت التي تحيط بنا والمصادفات التي تصرف إلى حد كبير حياتنا، فتثبت إرادتنا في ناحية من النواحي. وبكلمة أخرى تعدل تياراتنا الناقلة للحركة إلى الطريق الملائم لهذه الظروف والأحوال التي لا عداد لها، والتي لم يكن لنا دخل إرادي في تكوينها. فهل مع وضوح المسألة إلى هذا الحد يمكن القول: بأن الحال الإرادية هي شيء آخر غير الحال العكسية وجهت جهة خاصة غيرت في كمها واتجاهها، ولم تغير مطلقا في نوعها وكيفها؟
على أن لدينا دليلا آخر أبلغ ما يكون في الإقناع بأن حالنا الإرادية، ليست إلا أثر تفاعل المواد المركب منها جسمنا مع نفسها ومع المواد الأخرى. وهذا الدليل يستنتج من حالتي السكر والمرض. ها هو ذا صديقك مصمم كل التصميم على القيام بعمل خاص، ولقد رجوته كثيرا أن يعدل عن رأيه أو يغير إرادته، فرفض رفضا باتا مع تقديم أقوى معاذيره. وإنكما لتسيران في الطريق، وإذا بالمطر ينزل فاضطررتما أن تميلا إلى (قهوة) من المقاهي. وطاب لكما المجلس واستمر المطر يهطل وخيم الليل، وأضاءت مصابيح الكهرباء ولذ لكما تناول شيء من الكونياك أو الوسكي. ووجدتما صنف المشروب الذي قدم لكما جيدا فاستزدتما منه. أفترى صديقك باقيا على تصميمه الأول؟ أم ترى فعل المشروب سرى في نفسه، وعدل آراءه وجعله شخصا آخر غير الذي كنت تراه منذ ساعتين مضتا. فقد تراه إذا عرضت له فكرة أخرى يبدي فيها رأيا ربما كان نقيض الرأي الذي أبداه قبل نزول المطر. كذلك ترى هذا الحال عند إصابته بمرض. فإنه يصاب بضعف في الإرادة وفتور في تحول التيارات الفكرية إلى حركات عملية، وهمود عام يصير روحه ضعيفة مبلغ ضعف جسمه.
وقعت على بعض أمثال مما كتبه بعض كتاب الإنجليز والفرنسيين في هذا الباب أريد إيرادها هنا دليلا على ما قدمت.
أدمن الكاتب الإنجليزي دكونسي الأفيون حتي بلغ من ذلك ما لم يبلغه غيره، فوصلت به الحال الإرادية إلى حال من الضعف كادت تتلاشى معه. فكان يود من كل قلبه إنفاذ عمل يراه ممكنا، ويحس أن إنفاذه واجب عليه، ولكن حركته الفكرية كانت تتخطى قوته العملية إلى حد يعجز فيه عن إنفاذ ما يريد، بل عن الشروع في ذلك. فكأنما كان تحت سلطان كابوس يرى معه ما يريد القيام به دون استطاعته كما يشهد رجل أقعده الضعف المهلك عن مغادرة فراشه المساءة موجهة إلى موضع من مواضع حبه وعطفه، فيلعن المرض الذي أقعده ومنعه الحركة، ويود أن يخلص نفسه من الحياة لو استطاع أن يقوم أو يمشي، ولكنه عاجز عجز الطفل ولا يقدر أن يقف على قدميه. (كتاب اعترافات آكل الأفيون صفحات 186-188.)
وذكر الطبيب الإنجليزي «بنت» حالة رجل كان لا يستطيع إنفاذ ما يريد إنفاذه. فكثيرا ما كان يود خلع ملابسه، ثم يبقى ساعتين عاجزا عن القيام بهذا العمل مع أن قواه العقلية خلا الإرادة كانت كاملة، ولقد طلب يوما كوب ماء، فقدم إليه فلم يستطع تناوله برغم رغبته فيه فترك الخادم واقفة أمامه نصف ساعة قبل أن يستطيع التغلب على هذه الحال. وكان يقول: إنما يخيل إليه أن شخصا آخر ممسك بإرادته.
ولقد ناضل الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران؛ ليتغلب في نفسه على ما فيه من ضعف الإرادة ووجه لذلك كل همه، وكان كل ما يرمي إليه من فلسفة هو تغليب الإرادة على النزعات الجسمانية. لكنه اضطر أخيرا أن يعترف «أن الحرية ليست إلا الإحساس بحال معينة من أحوال النفس نود لنفسنا أن تكون عليه، ولكن هذه الحال متعلقة في الواقع باستعداد الجسد الذي لا نقدر من أمره على مسها، وأن كل الميول والعواطف التي يظنها الناس مصدر السعادة ليست إلا أثرا من آثار نظامنا الجسمي كالسعادة نفسها» (أفكار مين دي بيران ص117 وص 119).
فذلك كله يحمل على الاعتقاد بأن أعصابنا وتياراتنا المادية، هي التي تصدر عنها أفعالنا التي تبعث بها إرادتنا، وأن أي مادة أخرى يمكن أن تؤثر في هذه الأعصاب والتيارات تغير من اتجاه الإرادة والعمل؛ لذلك فما تقدم لا يدع مجالا للريب في أن الحالة الإرادية ليست إلا طورا خاصا من أطوار الحال العكسية، وأنها متعلقة تمام التعلق بتأثر أجهزة الجسم، وتياراته بالآثار الخارجية. وهذه الآثار هي المحيطات الزمانية والمكانية. ومعنى هذا أن الإرادة الحرة لا وجود لها. فكيف والحالة هذه تمكن مثل مشترعي الأديان ومثل نابليون وأضرابه أن يغيروا في وجه العالم بإرادتهم ما غيروا، وأن يقيموا دعامة المدنية الحاضرة على الشكل الحالي إذا لم تكن إرادتهم إلا صدى الحوادث الخارجية عنهم.
هذا هو القسم الثاني من الاعتراض الذي رأينا أن نرد عليه. ومبنى هذا الاعتراض عند أصحابه أنهم يفترضون الفرد الإنساني وحدة قائمة بذاتها مؤثرة في العالم قبل أن تكون متأثرة به. كلا بل هي روح العالم كله على ما قالوا:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
نامعلوم صفحہ