ایمان و معرفت و فلسفہ
الإيمان والمعرفة والفلسفة
اصناف
بين كومت غير مرة في رسائله لجون ستوارت مل - وكانت فيما بين سنة 1841 وسنة 1846 أي: في الفترة التي تشمل ختام حاله الأولى وبدء حاله الثانية - محل تماسك قسمي أعماله وموضع تباينهما. وقد يكون مفيدا أن ننقل هنا نص ألفاظه، قال: «يجب أن يختلف القسم الثاني من حياتي الفلسفية عن القسم الأول منها اختلافا عظيما، وبالأخص في العواطف. إذ يجب أن تحتل من نفسي محلا حقيقيا، وإن لم يكن ظاهرا يضارع ما يحتله العقل منها، فإن التنظيم العظيم الذي اختص به عصرنا يجب أن يشمل العواطف كما يشمل الأفكار، بل إن هذه الأخيرة هي التي يجب تنظيمها أولا، وإلا فاتنا تكوينها تكوينا صحيحا فترتكس في نوع من التصوف فيه ما فيه من إبهام لا حد له؛ ولهذا كانت وجهة كتابي الرئيسي مخاطبة العقل دون سواه، فبنيته على أساس من البحث وما يلزمه من المعارضة والمناقشة، وغايتي من ذلك اكتشاف المبادئ العامة الصحيحة، وتكوينها بالتدرج من أبسط المسائل العلمية إلى أرقى المضاربات الاجتماعية»،
6
فلما تم ذلك لكومت انتقل لتنظيم العواطف على اعتبار أنها (النتيجة اللازمة لتنظيم الأفكار والأساس الذي لا أساس غيره لقيام الأنظمة).
وإذن فهذا القسم الأخير عمل قائم بذاته، ولقد ظن كومت أن شخصا سواه كان يستطيع أن يقوم به فتنتهي مهمته هو عند تأسيس الفلسفة التي تضع حدا (للفوضى العقلية)، ثم يكون بناء الأخلاق والديانة على أساس من هذه الفلسفة، ووضع حد للفوضى الخلقية والسياسية من عمل صاحب يخلفه. على أن إدمان العمل والحظ الحسن قد سمحا له هو بإتمام هذا العمل. وقد رأى منذ سنة 1845 (تحت تأثير مدام دفو الصالح) مجموع حاليه والفرق بينهما، وقدر في الثانية وجوب جعل الفلسفة ديانه كما جعل من العلم فلسفة في الحال الأولى.
وغرضنا من هذا الكتاب درس فلسفة كومت من غير تعرض إلى التحول الذي طرأ على هذه الفلسفة فجعلها ديانة، وليس اختيارنا هذا الغرض اختيارا تحكميا. فلدينا - تبريرا له - ما رأينا من تقرير كومت نفسه أن فلسفته وديانته قد يقوم بوضع كل منهما شخص مستقل عن الآخر.
قد يتساءل بعضهم عن الفرق بين المركز الذي اخترناه لأنفسنا، ومركز لتريه (والوضعيين غير الناضجين). وجوابنا أن الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين نظر المؤرخ والمقرر. فإن لتريه وأصحابه قد نظروا من هذه الجهة الأخيرة، ورفضوا لذلك فكرة (تنظيم العواطف) والطريقة الذاتية وديانة الإنسانية، وأخذوا كوضعيين، القسم الأول من المبدأ ولم يأخذوا القسم الثاني. أما نحن فقد وضعنا أنفسنا موضع المؤرخ، وللمؤرخ الحق في تحديد موضوعه من غير أن يترك دقيقة، ولا جليلة من المبدأ الذي يعرضه. ونحن أبعد من أن ندعي مع لتريه أن الشطر الثاني من مذهب كومت يضعف الشطر الأول ويناقضه، بل لقد قررنا أن مجموع القسمين يكون كلا واحدا وضع كومت فكرته في كتاباته الأولى، وأنه كان على حق حين وضع في صدر كتابه (اسياسة الوضعية) تلك الكلمة الجميلة التي قالها الشاعر الفيلسوف: إنما الحياة العظيمة فكرة يصورها الشباب وتنفذها الرجولة .
ولم ندرس إلا الشطر الأول من حاليه؟ لم لا نحترم مجموع ذلك الكل، ونحن نرى أن لتريه قد أخطأ في إنكار تناسقه؟ أجل إنا لنحترمه فلا نجتزئ من المبدأ استبدادا شيئا مما جعله كومت قسما منه، ولئن جعلنا الفلسفة الغرض الفرد من ذلك الكتاب فإنا سنجعل حاضرا أمام الذهن دائما ذلك المجموع الأعم الذي وضعه كومت فيه، فذلك شرط لازم لا يكون بدونه هذا البحث دقيقا وافيا. ولكنا متى التزمنا بهذا الشرط فنحن في دائرة حقنا، إذا نحن وجهنا إلى الفلسفة وحدها كل مجهوداتنا.
لتصوير تاريخ مبدأ من المبادئ طريقتان: فإما أن يقف المؤرخ نفسه في الموقف الفكري للفيلسوف الذي يدرسه مستعيدا أفكار ذلك الفيلسوف الرئيسية على الوجه الذي كان قد رآها به، ثم يقدر على طريقته أيضا أهمية المسائل المختلفة من غير أن يخرج عليه في التمييز ما بين المهم والثانوي منها، ويكون التأريخ في هذه الحالة أشبه شيء بترجمة عقلية للمؤلف. وإما أن يعمل المؤرخ لاستجلاء دخيلة المذهب قصد الوقوف على ما بنى من مبادئ وأفكار، ثم يضع نفسه بعيدا عنه وفوقه ويجتهد ليمركزه في محله من التطور الفلسفي العام، وبهذه الطريقة يتيسر فهم المذهب في مجموعه فهما دقيقا حيث يراه الإنسان، ويرى مبلغ اتصاله بما سبقه وما عاصره، وما جاء بعده من المبادئ. ثم إن الإنسان ليستطيع في هذه الحالة الأخيرة أن يفرق ما بين الأفكار الثانوية الأهمية القليلة البقاء مهما يكن من رأي صاحبها فيها. وإنا لنأخذ عن كومت في هذا المقام تفرقة كان يكثر من تقريرها، فكان يعطي أولى هاتين الطريقتين الأفضلية لمن أراد البحث والتنقيب، ويعطي هذه الأفضلية ثانيتهما فيما يتعلق بالتأريخ.
وتطبيق الطريقة الأولى في النظر إلى مذهبه يسوق المؤرخ؛ ليكون معه في اعتبار الفلسفة الوضعبة تمهيدا، وتحضيرا لديانة الإنسانية التي كانت الغرض والغاية من مجهودات تلك الفلسفة. ومهما وجب على المؤرخ في مثل هذه الحالة أن يوسع بهذه المقدمة اللازمة المؤلف الأساسي الذي وضع فيه كومت الأساس الفكري لمبادئه السياسية والدينية، فهو مكلف أن يجعلها تابعة لهذه المبادئ وأن يضع في المكان الأول فكرة (إعادة نظام الجمعية) وآي ديانة الإنسانية وبناء سلطان روحي، وسائر ذلك القسم من عمل كومت الذي أراد أن يقوم مقام (برنامج الكاثوليكية في العصور الوسطى)، وكله الثقة أنه سيؤدي غرضها خيرا مما قامت هي بأدائه.
ولكن عبقرية كومت لم تظهر على أكملها في هذا القسم من عمله. كلا! ولا كان هذا القسم أخصب مواضع فكرته. فإن مسألة إعادة نظام الجمعية لم تكن من وضعه هو بل كانت منتشرة في البيئة التي ظهر فيها أول شبابه، إذ كانت كل آمال الجيل الذي نشأ معه متجهة إلى إعادة النظام ووضع شروط التقدم وتحديد الصلات بين مقتضيات الخلق، وضرورات السياسة وإقامة ديانة تملأ ذلك الفراغ الذي خيل للناس أن الكثلكة تركته وراءها، وكل ما جاء في (السياسة الوضعية) لا يزيد على مشروعات المدرسة السان سيمونية التي ظهرت في سنة 1830، وإن اختلف الأساس الذي قامت عليه كل من الفكرتين. فكل ما عملته هذه السياسة أنها تأخرت ثلاثين سنة عن المشروعات المماثلة لها لا لشيء إلا أن كومت أراد إقامة نظامه على أساس من الفلسفة ومن الأخلاق، فصرف في هذا المجهود النظري زهرة شبابه وعنفوانه، ولكن الفكرة ذاتها ترجع في نفسه إلى الثلث الأول من ذلك القرن كما تدل عليه النشرات التي أعاد كومت طبعها. فلما ظهرت فيما بين سنة 1850 وسنة 1857 لم تكن من الجيل الجديد الذي نشأ في ظروف سياسية واجتماعية مخالفة لظروف جيل كومت، فلم تجد إلا نفوسا غير مكترثة لها لاشتغالها بمسائل أخرى ظهرت، فاستلفتت الأذهان واستشعر الناس الحاجة إلى حلها على عجل. وبذلك لم يبق لفلسفة التاريخ أن تستفز من النفوس ما كانت تستفزه من قبل، وضعف ما كان في النفوس من شوق لظهور ديانة جديدة، وبرهنت الكثلكة أن قوة الحياة فيها لا تزال موفورة لم تصب بسوء.
نامعلوم صفحہ