حفلت مكتبتنا العربية في هذه الأيام الأخيرة بكسب جديد بالغ الأهمية وهو ترجمة الأستاذ أمين سلامة لأوديسة هوميروس ونشر الجزء الأول من هذه الترجمة، وهو يشمل مقدمة يعرف فيها المترجم القراء بهوميروس وملحمته الأولى «الإلياذة» التي ترجمها في العام الماضي أيضا الأستاذ أمين ونشرها في ثلاثة أجزاء ضمن مطبوعات كتابي، ثم يعرفهم بالأوديسا ملحمة هوميروس الثانية ويلخص - كما فعل في حديثه عن الإلياذة كل أغنية من الأغاني الأربع والعشرين التي يتكون منها كل من الإلياذة والأوديسا.
ويلي المقدمة النص الكامل للأغاني الاثنتي عشرة الأولى من الأوديسا على أن يتضمن الجزء الثاني الذي لا نزال ننتظره - الأغاني الاثنتي عشرة الأخيرة وقد نقل المترجم كل هذه النصوص عن اللغة اليونانية أي لغتها الأصلية التي تخصص فيها الأستاذ أمين سلامة وحصل فيها على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، واستعان طبعا بالترجمات الأوروبية الحديثة وبخاصة الترجمات الإنجليزية. وإن كان ذلك لا يمس قيمة عمله من حيث إن ترجمته قد اعتمدت أصلا على النص اليوناني القديم مما يعطي هذه الترجمة كل قيمتها من حيث أمانة النقل ودقته، وإن كنا لا نستطيع أن نزعم أن هذه الترجمة العربية تصل في مستوى التعبير الشعري وجماله إلى مستوى الأصل اليوناني أو مستوى بعض الترجمات الأوروبية الحديثة التي تصل إلى حد كبير من الجمال دون أية تضحية بالدقة والأمانة.
ومن المعلوم أن الإلياذة كان قد قام بترجمتها منذ أواخر القرن الماضي المرحوم سليمان البستاني شعرا في أسلوب جهم لا يغري بالقراءة ثم قام في السنوات الأخيرة أديبنا الأستاذ دريني خشبة بتقديم الملحمتين إلى قراء العربية، كل ملحمة في مجلد واحد بعد أن قام - كما يقول هو نفسه - بكثير من التعديلات في القصتين وفي الأسلوب تيسيرا على شباب القراء حتى نشط الأستاذ أمين سلامة في السنوات الأخيرة إلى ترجمة الملحمتين ترجمة دقيقة عن اليونانية، دون أن يحذف أو يضيف أو يعدل شيئا في نصهما الأصلي. وبذلك أدى إلى قراء العربية وأدبائها خدمة رائعة لأن هاتين الملحمتين هما الأساس ومصدر الوحي والإلهام للأدب اليوناني كله والروماني من بعده، ثم للآداب الأوروبية كلها بحيث لا يمكن لأي أديب أن يجيد فهم كل هذه الآداب ما لم يبدأ بفهم أساسها ومصدر وحيها الأول وهو هوميروس وملحمتاه الخالدتان.
ومن المعلوم أن هوميروس قد استمد موضوع ملحمتيه معا من حرب طروادة، وهي تلك الحرب التي اشتعلت قبل الألف عام السابقة على ميلاد المسيح بين أهل طروادة سكان آسيا الصغرى واليونان نتيجة لخطف باريس أمير طروادة الجميل الطلعة لهيلانة زوجة مينيلاوس أحد ملوك المدن اليونانية؛ إذ رآها تلهو مع صاحباتها على الشاطئ الذي رست عليه سفينته فوقعت في قلبه كما وقع في قلبها ونجح في إغرائها على الهرب معه، وبذلك يكون سبب تلك الحرب الضروس في نظر شاعر الجمال هوميروس هو الصراع بين اليونان والطرواديين على هيلانة رمز الجمال المطلق، ولا غرابة في أن يقتتل اليونان هذا القتال المر الذي دام أكثر من عشر سنوات في سبيل رمز الجمال؛ فهم شعب لم يعشق شيئا كما عشق الجمال. ولقد يرى المؤرخون أن هذه الحرب كانت لها دوافع أخرى كالتنافس على التجارة وارتياد البحار، ولكن هوميروس آثر بحق الرواية الشعبية التي ترجع تلك الحرب إلى الصراع من أجل هيلانة رمز الجمال المطلق.
وإذا كان هوميروس قد كتب الإلياذة ومعناها في اللغة اليونانية: أغنية إليون، وإليون هو الاسم الذي كان يطلقه اليونان الأقدمون على طروادة بحيث يصبح معنى الإلياذة هو أغنية طروادة، وخصص تلك الأغنية، لحادثة واحدة من أحداث تلك الحرب وقعت في السنة الأخيرة من العشر السنوات التي دامتها تلك الحرب وهي حادثة غضب بطل الإغريق الأكبر أخيل لأن ملك الملوك أي القائد الأعلى للجيش اليوناني أجاممنون استولى غصبا على أسيرة أخيل الجميلة بريزيس وحرمه منها، فغضب البطل واعتزل القتال حتى دارت الدائرة على اليونان وأوشكوا أن ينهزموا لولا أن تدارك البطل الآخر أوليس الأمر بحكمته فاسترضى أخيل ورجاه أن يعود إلى القتال لينقذ قومه، وقبل أخيل أن يعود وبخاصة بعد أن علم بقتل صديقه العزيز باتروكلوس في المعركة، فهزه الوفاء لصديقه لكي ينتقم له ويقتل قاتله بطل طروادة هكتور. وتنتهي الإلياذة بانتصار أخيل على هكتور وقتله له وجر جثته مشدودة إلى عربة نصره، ثم تأثره بحزن بريام ملك طروادة ووالد هكتور عندما جاءه باكيا ضارعا طالبا إليه أن يرد جثة ابنه إليه فردها.
وأما الأوديسا فمعناها اللغوي مأخوذ من اسم بطلها أوديسيوس أي جواب الآفاق الذي كان اليونان يسمونه أوليسيوس أو أوليس، وسماه الشرقيون القدماء عولس. فهي إذن أغنية أوليس. وقد اختار هوميروس هذا البطل لملحمته الثانية كما اختار أخيل وغضبه للإلياذة؛ وذلك لأن أوليس يتجسم فيه جانب من الخلق اليوناني القديم يكمل الجانب الذي يمثله أخيل؛ فأوليس يمثل الحكمة والذكاء واتساع الحيلة في هذه الملحمة، بينما يمثل في الملحمة الأخرى الشجاعة المتهورة والكبرياء العالي والعناد الصلب إن لم نقل خشونة البداوة الأولى. والذي لا شك فيه أن الأدب وبخاصة أدب شاعر واقعي كهوميروس أدل على عقلية الشعب اليوناني من أي تراث روحي آخر؛ فالفلاسفة كأفلاطون أو الرواقيين قد يحدثوننا عن المثل الأعلى في الأخلاق ويراه أفلاطون في أن نعيش وفقا لطبيعتنا البشرية فلا نقاوم غرائزنا ولا نحاول قتلها بل نتركها تنمو نموا طبيعيا حتى لا نفسد حياتنا بكبتها مكتفين بأن نتخذ العقل رقيبا يحد من إسرافها ويلائم بين تنافرها. ولقد يدعونا الرواقيون ألا نتأثر بالأحداث فلا تنخلع قلوبنا للحزن ولا تخف أحلامنا للطرب، ولكن هذه كلها مثل عليا. والمثل الأعلى موضع رغبة ونحن لا نرغب إلا فيما يعوزنا، وأما الأدب وبخاصة أدب هوميروس الواقعي فهو الذي يبصرنا بحقيقة العقلية اليونانية التي لا تزال حتى اليوم معتبرة معجزة البشرية. ومن خلال تصوير هوميروس للبطلين أخيل وأوليس نستطيع أن نرسم الصورة الكاملة لهذه العقلية الفذة.
والأوديسا أو أغنية أوليس يرى فيها العالم الفرنسي الكبير فيكتور جيرار أغنية البحر الذي كان اليونان القدماء يعيشون معظم حياتهم على متنه ويجوبون آفاقه بحثا عن وسائل العيش التي تضن بها أرضهم الجرداء في معظم بقاعها الجبلية، وهذه الملحمة تقص علينا مؤامرات أوليس وما لاقاه من أهوال في طريق عودته من طروادة إلى وطنه ومقر ملكه، ومأوى زوجته الوفية الحبيبة بينيلوب، وهي جزيرة إيثاكا التي تقع على الشاطئ الغربي لبلاد اليونان أي عند شاطئ الماسيا وقد دامت رحلته هذه عشر سنوات أي أنه قد تغيب عن وطنه وأهله عشرين عاما قضى منها عشر سنوات في مقاتلة أهل طروادة وقضى العشر الأخرى في مغالبة الأهوال ومقاتلة الوحوش ومقاومة إغراء الساحرات والفاتنات اللائي التقى بهن عند بعض الشواطئ أو الجزر التي ساقته إليها الأمواج والعواصف وبخاصة أن إله البحار بوسايدون كان يناصبه العداء ولولا رعاية الإلهة منيرفا التي كان اليونان القدماء يسمونها بالاس أثينا ويزعمون أنها قد خرجت من رأس كبير الآلهة زيوس مدججة بحربة القتال رمزا إلى أن الحكمة لا تخرج إلا من عقل الآلهة، وأنها تخرج مدججة بأقوى سلاح - لولا عطف هذه الآلهة على ربيبها أوليس الحكيم لهلك البطل في رحلته الشاقة ولما استطاع أن يعود إلى وطنه وإلى زوجته الحبيبة الوفية بينيلوب وإلى ابنه العزيز تليماك بعدما لاقى من أهوال يفصل الحديث عنها هوميروس في ملحمته الخالدة، وكلما اشتدت بأوليس المحن تذكر وطنه وأهله فاشتد عزمه وتفتقت حيله حتى كتب له الخلاص في النهاية، وعاد في الوقت المناسب لينقذ وطنه وملكه وزوجته من الطامعين والمتربصين الأشرار، ولا نرى خاتمة لهذا الحديث الموجز السريع خيرا من أن نثبت جزءا من تغني أوليس بوطنه حيث يقول «بلدي إيثاكا الشهيرة التي تنظر إليها الشمس وقت الغروب، فيها ترف الأوراق الكثيفة على سطح جبل النيريت عند الظهيرة، وأما الفجر فينثر حولها عددا وفيرا من الجزر الخصبة الخضراء. بلدي تقع على مقربة من أرض اليونان جزيرة تقطعها الصخور ولكنها موطن فتية بواسل. لا، ليس في الأرض مكان أحب إلى قلبي منها - عبثا حاولت كالبسو أن تستهويني بكهفها لتخصني بشرف الزواج منها، عبثا حاولت سيرسيه العالمة بكل ما يعرف السحر من حيل أن تعرض علي العرض نفسه فتحتفظ بي موثقا بحبائل الزواج. لقد تبدلت جهودهن هباء فعجزن عن إمالة قلبي؛ وذلك لأن أرض الوطن وما تقل من أهل وهبونا الحياة واتصلت قلوبنا بقلوبهم؛ قد أوحت إلي بحب رقيق لا يستطيع كل ما في الأرض من مجد وخيرات أن يصرفني عنه.»
وبعد فأرجو أن يكون في هذا الحديث الموجز ما يغري بقراءة هذه الملحمة الرائعة وزميلتها الإلياذة أكبر مصدرين للأدب العالمي كله.
محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
نامعلوم صفحہ