وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسير على منهجها. هؤلاء قد فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل - فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علما وليدرسوا خلقا - يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، وهو دراسة الحياة الاجتماعية في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبين مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومن الرحلات التي تنظمها الهيئات، ومن الحفلات التي تقام في المناسبات، ومما تقع عليه العين المفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائق والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسا وفي كل خطوة يخطوها فائدة. إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقا آخر جديدا، ويعود إلى بلده وقد اكتسب علما كثيرا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم المختلفة، وتعلم نظام الأسرة من البيت الذي نزل فيه وما دار فيه من أحاديث وما حدث فيه من أحداث. وعرف الشعب الإنجليزي أو الفرنسي مما شاهده في الشارع ودور السينما والتمثيل وما اشترك فيه من رحلات ومن معاملاته اليومية مع الناس، وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود المعقول، وأمتع عقله في حدود المعقول أيضا.
وكما اختلف المتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم.
فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبين عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فالحياة في نظره لذة منتهزة ولذة مرتقبة ولذة مأسوف على ضياعها ولا شيء غير ذلك، فإن كلف عملا جديا فعلى هامش الحياة.
ومنهم من عاد وكأنه لم يخرج من بلده، إلا علما حصله أو شهادة نالها، أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغير منها شيء.
ومنهم من استفاد فائدة كبرى من أوروبا في علمه ونظرته الاجتماعية ومعرفته بكثير من دقائق الحياة في البلاد التي رحل إليها، ولكنه لما عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه اليأس ... اصطدم بالفوضى في إدارة البعثات وفي وزارة المعارف وفي وزارة المالية، وتذكر ما كان قد نسيه من ورق يغيب بين الإدارات أشهرا من غير أن يبت فيه، وورق يسار فيه بسرعة البرق لأن صاحبه «محسوب»، ورأى مستحقا يهمل وغير مستحق يكافأ، ورأى البيوت وهرجلتها والشوارع وفوضاها والناس وقذارتهم والفقراء وبؤسهم، وقارن بين ما كان يعيش فيه من نظام وعدالة ونظافة وأناقة، وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. وحاول أول الأمر أن يغير شيئا من ذلك فلم يستطع، فيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزا عليه لا أمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه. •••
كل هؤلاء - يا بني - قد رأيت نماذج منهم، ولا أحب أن تكون أحدهم، إنما أحب - إذا عدت وقد اكتسبت علما ونفسا وقلبا - أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، ونقائصهم فتشفق عليهم، وتجتهد - ما أمكنك - في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، فحاول الإصلاح في بيئتك الخاصة ... وفي طلبتك الذين تعلمهم والأساتذة الذين تخالطهم والبيت الذي تنشئه والصديق الذي تجالسه، وفي هذا القدر كفاية للرجل الطيب المحدود الإرادة. فإذا اتسعت إرادتك وقويت عزيمتك وشغلت بعد منصبا رئيسيا استطعت أن تنشر نفوذك وتعمم إصلاحك. •••
لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخير ألا يبعث؛ لأنا بذلك نخلق جوا من اليأس خانقا، وقلة العلم مع الأمل والطموح خير من كثرته مع اليأس والقنوط.
إن الأمة ترسل مبعوثيها ليكونوا خير ذخيرة لها وقادة إصلاحها ومتزعمي نهضتها، فإن هم استولى عليهم «القرف» واقتصروا على التقزز مما يرون وإطلاق ألسنتهم بالعيب في أمتهم والإشادة بذكر أوروبا ومحاسنها كانت خسارتنا فيهم مضاعفة ... خسارة في الأرواح وخسارة في الأموال وخسارة في خلق أعداء للأمة من ذاتها. •••
إن كل مبعوث فبعثته دين عليه لأمته لأنها ربته أولا في أحضانها ثم أنفقت عليه من مالها لينضج في خارجها، فإن هو جحد الدين فتجهم لها وأنكر صنيعها كان أكبر غادر وأخس جاحد.
إن أكثر هؤلاء - يا بني - يتعللون بأنهم حاولوا الإصلاح فلم يفلحوا، وجدوا في تنظيم ما فسد فلم ينجحوا، ثم لم يجدوا أمامهم إلا أن يرضوا بحالهم، أو أن يسيروا مع التيار فيفسدوا مع المفسدين ويشيعوا الفوضى مع المشيعين، ويطلقوا مثلهم الأعلى ويقتصروا على التملق لأخذ درجة أو الحصول على منصب؛ ولكني أعيذك بالله أن تكون واحدا من هؤلاء الممسوخين الذي ردوا أسفل سافلين. إن هؤلاء إنما جرفهم التيار لضعف قوتهم ونكصوا على أعقابهم لانعدام شخصيتهم، والرجل القوي الإرادة العظيم الشخصية يفرض إرادته ويحقق شخصيته، ويحول التيار ولا يجرفه التيار - وهذا ما حدث فعلا من أشخاص تعلموا في أوروبا ثم عادوا فصبروا على ما أوذوا وعاندوا في محاربة الرذيلة والانتصار للفضيلة حتى أدركوا بعض غايتهم وحققوا شيئا من أملهم.
نامعلوم صفحہ