بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك يا من شيد لأصول الدين أساسا ثابتا على قوائم القواعد، وأيد لوصول اليقين أناسا أشرقت لهم شموس الشواهد، فاضمحل معها نبراس الوهمي الفاسد، أعوذ بك من مواقف الضلال وضلال المقاصد، وأسألك معارف الجدال في صحائف العقائد، حتى يكون الذي مننت به علي من تجريد الفوائد، موصولا بتنقيح الفوائد، وتوضيح الزوائد، ويصح ما أوقفتني عليه ووفقتني إليه من مضمرات الإشارات ومغربات العبارات كشافا علة فوائد القلائد، وقلائد الفرائد.
وأستجير ببابك المفتوح لكل وارد، وفضلك الممدود لكل وافد، فأجرني من أن تصير مصادر أفعالي ووجوه أحوالي عاملة نصبة لعداوة المطهرين الأماجد، وأستعين بك في دفع الجور عن أهل العدل ورفع النصب لأهل البيت من كل جاهل جاحد، فحبهم يذهب زبد النصب جفاء، والعمل الصالح يرفعه في أحسن المقاعد.
وأصلي وأسلم على من ظهرت بوجوده طوالع الأنوار برغم كل جاحد، وبين الصبح لذي عينين من كل معاد ومعاند،، سيدنا محمد الذي ظهرت الذي أذعن بتصديقه من كان للمنتهى في الجدال قوي العضد والساعد، وامتنع تصور كذبه عقلا لا عند حمالة الحطب وأهل ذات الوفود ومن استوقد من نارهم نبراسا بلا نظر ناقد ولا ناقذ، فهو أحق عمى، وأبو جهل وابن ضلالة القائم فيها شر ....
صفحہ 2
القاعد، وعلى آله المطهرين المأمور بمودتهم في التنزيل الواضح والحديث الوارد، فأنى يتخطى إليهم الخطا بأن ينسبوا إلى جنابات الأعمال شيئا من الفحشاء أرادة وفعلا، وقد عانوا في الذب عنه مكائد المكارم، ومكاره المكابد، فهم أهل العدل الذي تساقطت الهمم دون مجاراتهم ومماراتهم من كل مجادل ومجالد، وهم الوارثون للكتاب العزيز والسنة الشريفة النبوية، فلهذا السلوك.... إليهم سهام المعصية لكنها أدركت كلالة لا خافض فيها ولا صارد، وهم الضاربون في كل فخر نسبهم قامروا أعدائهم يضربون في حديد بارد، فلا غرو إن قصر عن شادهم في المعارف والمعالي كل مراغم ومزاحم، ومطاعن ومطارد،
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا
لدى المجد حتى غدا ألف......
وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله شهادة تكون للدين أساسا غير مائل ولا مائد، وتصبح في أفق اليقين شمسا ينطفي معها نبراس التخييل الفاسد، من كل صائل وصالد، ورضي الله عن أصحاب رسول الله الذي ذكرهم عهاد المعاهد، وشهد المشاهد كيف هم السابقون إلى أسنى المصادر وأهنئ المراصد، فهم الأحقاء بأن يقال في حقهم:
هم القوم كل القوم يا أم خالد
صفحہ 3
أما بعد: فإني لما وقفت على النبراس الطاعن في قواعد الأساس في مستهل شهر ربيع الأول من العام المجمل لعشرة أعوام بعد مائة وألف عام، وكنت بعد سماعي بوجوده أجيل في تطلبه سوائم نظري، وأحيل على ترقبه حوائم فكري، لأتصفح كنه مغزاه وأتفحص عما أراد مؤلفه بما اخترعه فيه وبما عزاه، وهو يومئذ يخفى في أيد جماعة يضنون به عن الابتذال، ويظنون أنه العاق النفيس الذي حقه أن يصاب ولا يذال، ويحسبون [1] أنهم في ذلك للكتاب بمجرد التمني والخيال، لكنهم لا يكادون يفقهون سنة، ومن غيره من كتب الفن الأمجد، وتوصيف الحال أو ترصيف المقال، حتى أفهمني معن الواقعين عليه أنه مما لا يمد أي حوله عنق الاعتراض والاعراض إليه، فزادني شغفا بالتطلع إلى أماكنه وأورثني لفها بالتطلب إلى مكامنه وهو مع ذلك كظل السائر يذهب هربا بالطلب، أو كلمع السراب لايطفو طالب السراب منه مأرب، ولقد كدت أحكم أنه مع العنقاء في السرداب أو يجهل رضوي برعي الأعواء في مزارع الأبدال والأقطاب.
ثم إن يدي وقعت عليه فوجهت النظر إليه فندمت على ما أفرطت في جنب البحث عنه من وط التطلب والسؤال، إذ رأيته في اختفائه شبيها بكسب الأشعري في خفائه، كما أنه يشابهه في الاضمحلال عند المناظرة والجدال
لا تنشر في طيه للأنصاب نشرا
ولم أجد تحت كبر حجمه إلا طغيانا وكبرا يروعك من سعد بن بكر جسومها
صفحہ 4
وتزهد فيها حين تقتلها خبرا
وكلما زدته نظرا زادنى خبرا عن ضلاله البعيد كلما التمست محط جوهره رأيته قد حكى لمن كان له بصر حديد عن غش جديد وزعل عتيد
سبكناه ونحسبه لجينا
فابدى السبك عن خبث الحديد
لكني وجدته يخبرني خبرا صادقا عن عدة تعصب في مؤلفه:
وشدة نزوغ ونزوح منه إلى إنشائه ومألفه
كأن يحن إلى أول أرض مس جلده ترابها
أو يقول: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلما خلا فسرى بها سرابها
ولذا طفق يقرع أبواب الخدش في قواعد العدل والتوحيد، وعلق بالطمع الفارغ في أن يقلع منها كل ثابتة اليد روما منه لإزالة ما لا يزول وليس بزائل، وخوفا على إحالة ما لا يحول وليس بحائل،
وليس بأول ذي هبة
وعنه لما ليس بالنائل
على أن ما حال في الآثار الدارسة بين أهل التدريس وما جاء إلا بكلام ملفق من أخلاق التلبيس، ثم أنه نفخ في الرماد ويذخ بمبني على غير عماد، ومندرس مندرج فيما بار وباد، عند كل حاضر وباد، ودفين على بقايا دفين، في طويل الأزمان والآباد.
صفحہ 5
ولما رأيته كذلك وتفظلت لما فيه من السلوك المحلولة والمسالك، وأحطت بما اشتمل عليه من الشكوك للعقود والمهالك، وخلته قد ساق على قواعد العدل العامرة، وتملق بترويج العبارات العابرة على .....الأنظار القاصرة، واشتغل بالعلامة وهو جار الله فجار عليه إلحاقا بمؤلف الأساس، وأورد في فصوله وفضوله كلاما ليس بينه وبين الإنصاف مساس، هينمته خوار، وهيعلقه جؤار، وريثته عوار، وزينته عار:
كساه بعار لتلبيسه ... على أنه خاف مستعار
ومع ذلك فقد كان سببا لانحراف بعضن المخذولين عن قواعد العدل والتوحيد، وسلما إلى ثلم الأساس وتغطية الكشاف بجرد الهوى والتقليد لولا أن هؤلاء المخذولين في تمييز التقليد والتقليل بسواد العدلية وفي ورطة التزويد، والتغفيل عن الأدلة النقلية والعقلية لعلموا أن تلك الكواكب النيرة بعيدة عن المس، وأنه لا سبيل إلى خدش ما حرره.....ولا إزالته بغير المحو والطمس
لا غرو أن يبلى شريف بخامل
.................الشمس
صفحہ 6
توجهت إلى إبانة مطارح أنظاره، ومطامح آرائه وأفكاره غيرة مني على الحقائق من ذنب [2] التلبيس وعيب آثاره، وقيدت العناية المطلقة بصرف ......معانيه .............والهداية بمناره، وسددت البيان تلخيصا وتخليصا من بد الجدال وغباره، وقيود التشكيك وآثاره، في مباحث تستوقف الناظر على كنز الحقائق، وثواقب تقذف في القلوب المنصفة برد التحقيق الكاشف لرمز الدقائق.
وإني لمعترف بالقصور، ولكني مغترف من فضل الله الذي هو ليس بمحظور ولا محصور.
وحين رأيت الكلام لا يفي بالتمام منذ هذا العام لا سيما مع عدم ظفري بالكتب المحتاج إلى استحصار ما فيها من كلام الأقوام، وأسانيد الأحاديث المروية عنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إذ كنت ببلد يلد ساكنوه حتى قيل إن هم إلا كالأنعام، فهم لا يعرفون المواقف والمقاصد، ولا تجريد الكلام.
أعرض صحفا عن تمكين الصفحات من رشف ألسنة الأقلام ، وطويت كشحا عن نشر تلك النفحات، ونشر الأعلام، ثم ادركت بعد أمة فرأيت إماطة بعض الشبه من المقاصد المهمة، واستحسنت أن أقدم بين يدي غواي ما يحقق أملي في الله ورجواي مسارعة في إزالة ما عساه قد اشتبك في أنظار الناظرين من دخان هذا النبراس، وحرصا على محراب العدل والتوحيد من زخرف المجادلة لهم، وقارعة الوسواس، فلربما هاجت عن النبراس نار عظيمة تستأصل جماهير من أهل ......ويبلغ شرر شرها إلى ما لا يبلغه النظر، وتنال منه، لا يكون أهلا للضرر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
صفحہ 7
فقدمت من ذلك ما يجري مجرى الألوكة، وخواطري للأخطار والحوادث مقيدة مملوكة، وجعلته أمام ما أرومه من تفكيك الأمراس لتشكيك النبراس، وتصفية الأكياس بتقوية الأساس، فهي هدية مني إلى كل من كان منصف أديب، وتحفه عني نحو كل منصف بالنظر غير غريب، ولم أبالغ في التنقيح وإنما مرمى مرامي هو التوضيح حتى أني لا أكاد أستغني بالتلويح، فإن ثبتت لي الوسادة لم آثر العنان عما طويت أولا عن نشره كجشي الإجادة، ووضعت موضوعا يكون محمولا على رأس الإفادة.
هذا وإني لما خرج بنا الكلام في ذلك، وطال وطاب، واستدعى كشف الغطاء على الخطأ بتثبيط الخطأ، حتى صار المجموع بما يستحق اسم كتاب بل امتلأ بما طال وطاب.
فلنسميه: الاحتراس عن نار النبراس، ليطابق اسمه معناه، ويوافق عنوانه مدارج مبناه، مع أن المنصف المتصف بقبول الحق من المصارم والمصاحب لا يرى هذا النبراس إلا من نار الخبا يخب.
وأما المعاندون المصرون على التقليد، والزاعمون أنهم يجدون على النار هدى، وهم ينادون من مكان بعيد، والقائلون: هذه النار نار ليلى فيميلوا ولا تصغوا إلى تفنيد.
فإنما يقرع أسماعهم لما طبعه ابن أبي الحديد، حيث قال في نظمه السديد:
هل أنتم إلا الفراش رأى السرج وقد توقد
صفحہ 8
فدناها حرق نفسه ولو اهتدى رشدا لأبعد وهذا أوان الشروع فامنحه أيها الناظر كمال الشعور، واترك التلفت إلى بنيان الأسلاف ومازلهم إذا لم تكن من أهل القصور.
واعلم أن مؤلف هذه الاعتراضات المبددة إنما وجد الفرصة على ما أورده مؤلف الأساس قدس الله روحه من الفوائد المسددة، والقواعد الراسخة المؤيدة، لعدم تحريره لها على قواعد أدب البحث ومقتضى علم الميزان، وهو الذي يعرف به القبحة والفساد في الدليل والبرهان، فربما أورد البرهان القاطع بما يصير به أقرب إلى الشبهة [3] التي يطمع في حلها كل طامع، وهكذا كان كثير من أصحابنا رحمهم الله تعالى لا تجدهم يحرصون في كلامهم على طوارق الخلل، ولا يتحرجون في مرامهم على عوائق الاضطراب والخطل،
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمقنب
صفحہ 9
فكلامهم رحمهم الله تعالى وإن كان في غاية التوضيح والتبيين، وليس غالبه على حسب المألوف عند الخصوم من مراعاة تلك القوانين وحسن التحرير والتقرير وملاحظة مناصب الجدل بين المتناظرين، فربما وجدت في كلام بعضهم رحمهم الله انتقالا من منصب إلى منصب، وخروجا تارة من سبيل المحتج إلى مضيق المغتصب، فبينما هو مغلل إذ صار مانعا والعكس، الذي هو في باب المناظرة ليس نافعا ولا دافعا، وربما ترك بعضهم إحدى مقدمتي القياس عن شرط يخل به فقدانه، وهو لا يلتفت إلى أنه قد اختل برهانه، ما ذاك إلا لأنهم جزاهم الله خيرا لم يلتفتوا إلى جانب العبارات والمباني إلا بقدر ما يتوقف عليه المقصود، ومن قرع الأذهان بالمعاني، وإنما هم بصدد النصح والهداية والإشارات إلى الحقائق الثابتة في نفس الأمر بلا اعتبار معتبر، ولا مراعاة في رعاية، فإن الحقائق ليست مربوطة بالألفاظ ولا موقوفة على العادات، والمدركات ليست مشروطة بالاحتفاظ على مجرد العبارات والاعتبارات، فطال ما أشرقت وجوه الحقائق لطالبها في عبارة مظلمة الأرجاء، وانكشفت أستار الدقائق مع العوائق عن عيون اليقين ببلوغ الرجاء، فإن البرهان القاطع في نفس الأمر لا يضره اللفظ باضطرابه القلق، كما أنه لا يضر السيف القاطع قرب قرابة الخلق.
ما إن يضر الغضب كون قرابة
ض
خلقا ولا البازي حقارة عشه
نعم: قد وقع في كلام الإمام صاحب الأساس قدس الله روحه في دار الثواب نوع اختلال وغفلة واضطراب في مواضع معروفة عند ذوي الألبابن وقل أن يسلم من جميع النقائص أحد من ذوي الخصائص،
ومن ذا الذي ترضا سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
صفحہ 10
ثم اعلم: أن العلماء شكر الله سعيهم ما اصطلحوا على تلك الرسوم التي سموها أدب البحث والمناظرة، ونسبوا من مال عنها إلى العناد والمكابرة صونا عن الخبط، وعونا على الضبط، وهذا المعترض الذي هو صاحب النبراس لا يكاد يفوق في هذا المجال بين الرجل والرأس، ولا يكابره ذلك براعي تلك القوانين والمناصبن وإنما ينقلب بحسب أغراضه وأمراضه، ما بين رافع وناصب، فلهذا جربنا ناره على مثاله في عدم المراعاة لتلك القوانين، ونسجنا طورا على منواله في البحث طمعا في كمال التبيين.
فإن المجيب في يد الباحث كالرهين فقد يخرج الحق أيضا من مقام إلى مقام، روما لحسم رأيه العضال، ومعضلة الزحام.
والله سبحانه ولي الإعانة في الابتداء والتمام، وبيده التيسير للإبانة في المصطلح وحسن الختام.
قال المعترض: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله الذي أبان بطوالع أنوار المثاني أساس قواعد العقائد، وأعان لتجريد الحق واستخلاصه من بين مواقف الآراء المختلفة، ومراصد الأهواء المضللة، وتحقيق المقاصد، وهو الله خالق كل شيء عامل وعمل، علوي وسفلي، هابط وصاعد، فإن بيده ملكوت شيء فيخلق ما يشاء ويختار، فلا يشاركه من خلقه في الإيجاد واحد، سبحانه هو القاهر فوق عباده، فكل في قبضة قدرته، [4] من موافق ومعاند، فأنى لمقهور أحداث ما يشاء على الاستقلال، دون الفعال لما يريده من كل معترف وجاحد.
صفحہ 11
والصلاة والسلام على خير حلقه سيدنا محمد الذي على شرعه المطهر ترفع من بيت العقائد القواعد، وعلى آله وأصحابه الذين هم نجوم الهدى لربهم، اقتدى من سالك راشد.
أقول: قد اشتملت هذه الفقر المفتقرة إلى النظر على أشياء لا تخفى على ذوي الفكر السالمين من تغيير الفطر.
فمنها ما هو مقصود بالذات كالحمد، وهو الثناء على الجميل الاختياري لكن ستعلم ما يلزم على قاعدة المجبرة من انتفاء الجميل في أفعال الباري تعالى عما يقوله الظالم المتجاري، كما ستعلم مما سنوضحه أنه يلزم على مذهبهم عدم اختياره في أفعاله وأحكامه تعالى لقولهم بقدم الحكم والحجج.
ومنها: ما هو مقصود بالغرض كالإشارة إلى نفي حكم العقل وإلى أن العقائد بأسرها إنما استفاد من السمع.
قلنا: قدم الجار والمجرة في قوله: بطوالع...إلخ -أي لا يغيرها شيء من أحكام العقول- والباء فيه كالباء في قولك: كتبت بالقلم، وإضافة الأنوار إلى المثاني كإضافة اللجين إلى الماء، في قوله
ذهب الأصيل على لجين الماء
أو على جبل الأنوار ثابتة للمثاني على ضرب من الاستعارة، والمعنى على الأول بأن القرآن الذي هو كالأنوار الطوالع في الإشراق والظهور رأسا من قواعد العقائد -أي الأحكام الشرعية التي هي كالأساس الثابت لقواعد العقائد جميعها- وعلى الثاني ظاهر.
صفحہ 12
وأنت خبير بأن لفظ الإبانة في قوله: أبان مشعر بثبوت الحكم في نفسه ومغايرته للمبيبن به الذي هو القرآن، إذ المعنى أنه إنما أبانه بالقرآن وكشف جلبابه حتى ظهر وبان، ولا بد من مغاير للمبين والمبين وهذا لا يطابق مذهب الأشاعرة، ومن كابدهم كالمعترض بل يناقضه، فإن الحكم عندهم عبارة عن خطاب الشارع، وكيف يكون خطاب الشارع مبينا للحكم وهو نفس الحكم، فيلزم منه إبانة الشيء لنفسه وهذا ظاهر البطلان بدون تصور نزاع، وقد وقع المعترض فيما هو أشد من هذا وأصح منه، حيث قال: فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة القرآن ما نصه: فتعلق الأمر بما علمه تعالى حسنا بشروطه، وتعلق النهي بما علمه قبيحا بشروطه...إلى آخر كلامه، وهو صريح في تقبل الأمر والنهي متعلقين بالحكم المعلوم له معاني الموصوف بالحسن والقبح، فلا يكون شيء منهما نفس الحكم، بل لا بد من المغايرة بالذات ضرورة، وهذا مناقض لمذهب الأشاعرة، وعلى مذهب العدلية.
وبهذا يندفع ما يقال أنه قد أراد المجاز، حيث جعل القرآن مبينا للحكم أو مبينا به الحكم، مع أنه عندهم نفس الحكم، وأن المغايرة بالاعتبار تكفي، ولما كان مندفعا؛ لأن هذا التصريح الذي صرح به في مسألة القرآن يأبى هذا التوجيه المذكور كما أنه يناقض مذهبهم المشهور.
صفحہ 13
ولهذا قال إمام الحرمين: ومما يجب التشبيه له أن قولنا: لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع تجوز منا حيث يوهم كون نفس الحكم زائدا على الشرع موقوفا إدراكه عليه، وليس الأمر كذلك ... الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذا في القبح، وإذا وصفنا فعلا بالوجوب فلسنا نقدر للفعل الواجب صفة بها يتميز عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع به إيجابا، وكذا الحظر، انتهى.
كما نقله عنه سعد الدين في شرح المقاصد، فكلام المعترض هنا لا يطابقه بل ما نقلناه مما سيأتي عنه في مسألة القرآن لا يجري على مذهب أحد من الأشاعرة المنافي للحسن والقبح عقلا[5] كما لا يخفى.
وأما ما يقال من أن الذي أبان الحكم ليس هو الكلام النفسي القديم عندهم فإنه نفس الحكم كما صرحوا به تصريحا لا يخفى على أحد، بل المراد هو اللفظي الحادث اتفاقا وهو القرآن الذي هو الآن ببن أظهرنا، فإن ترجمة عن النفسي، وكلما كان كذلك صح أن تضاف الإبانة إليه، فلا توجيه له نظرا لما سيأتي للمعترض من الذهاب إلى قدم اللفظي المذكور تبعا للقاضي العضد، وأيضا فاتصاف النفسي بكونه أساس قواعد فيه ما فيه، كيف وقد زعموا أن النفسي الذي هو صفة لله تعالى غير متعلق بأحد التعليقين: التعلق الحادث والتعلق الأزلي بزعمهم، نفروا من إثبات تعلقه، وقالوا: أن قولهم في تعريف الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بفعل المكان...إلخ.
صفحہ 14
معناه الذي من شأنه أن يتلعق، وأنه مجاز من قبيل تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كما صرح به في شرح جمع الجوامع وغيره، بل قد فسر بعضهم عن تسميته خطابا حقيقة كان ما كان بعد إفرادهم عن إثبات تعلقه وإثيات كونه خطابا حقيقة، فكيف يتجاسر أحد من أتباعهم كالمعترض على أن يصفه بأنه أساس قواعد العقائد، فإن ذلك مستلزم للحكم بتعلقه وكونه خطابا حقيقة، كما لا يخفى، بل يلزم أعظم من ذلك وهو كون الصفة التي هي صفة الله حقيقة أساسا لقواعد العقائد وهو محال، ولا يجوز التجوز فيها بحال.
ومن هنا يلوح لك أن من زعم قدم الكلام اللفظي كالعضد ومن قلده فقد لزمه المحذور الذي فروا منه.
قال شارح ورقات إمام الحرمين ما لفظه: والأحكام جمع حكم، وهو نسبة أمر إلى آخر على سبيل الإيجاب أو السلب، فأخرج العلم بالذات والصفات.
قال: فإن قلت الأحكام بعض الكلام، والكلام صفة.
فالجواب كما قال البيضاوي في المرصاد: بأن الحكم ليس هو الكلام وحده، بل الكلام المتعلق أحد التعلقين، وهذا المجموع -أي مجموع الكلام- وأخذ التعليقين لا يكون صفة حقيقة، انتهى، -أي فلا يلزم أن الحكم عين الصفة- وبه يزداد ما ذكرناه وضوحا.
صفحہ 15
نعم في هذا الكلام المنقول عن مرصاد البيضاوي نظر؛ لأنه مبني على أن المطلق إذا اعتبر في فرد من أفراده كان مجازا، وهذا مما لا يقول به عارف، فاعتبار التلعلق في الكلام الذي زعموا أنه صفة تلله تعالى لا تخرجه عن كونه صفة حقيقة كما اعتقدوه، وإنما غايته أن يكون صفة متعلقة بالفعل، وقد كان شأنها التعلق وزيادة، قيد التعلق لا يوجب الخروج من الحقيقة إلى المجاز، هذا وأنت قد علمت آنفا أن قولهم في تعريف الحكم هو خطاب الله تعالى المتعلق...إلخ، ليس المراد به إلا الذي شأنه التعلق كما مر عن شرح جمع الجوامع.
وبهذا يعلم ما في مذهبهم من الاضطراب، وأنه يلزمهم اتخاذ الحكم والصفة أيضا -أعني أنه يكون الحكم الشرعي نفس صفة الباري تعالى- فليعلم صاحب المرصاد {إن ربك لبالمرصاد}، {وما الله يريد ظلما للعباد}.
صفحہ 16
ومنها: براعة الاستهلال وذكر العقائد إشارة إلى أن هذا الكتاب من هذا الباب مع التوجيه بذكر طوالع الأنوار وهو مصنف القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي، والأساس وهو الكتاب الذي صنف المعترض كتابه في الاعتراضات عليه، ومؤلفه -أي الأساس- غني عن التعريف، واتصال نسبه بباب مدينة العلم لا يحتاج إلى توصيف، فإن احتاج إلى ذلك بعض الجاهلين لأهل البيت الشريف، فهو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن الداعي إلى الله القاسم بن يوسف بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر لدين الله أحمد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسبن الهادي بن الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن الرضي بن الحسن [6]السبط بن الإمام الوصي أمير المؤمنين وباب مدينة العلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقدس أرواحهم في الجنة.
ولقد كان هذا الإمام المؤلف رحمه الله تعالى على جانب عظيم من الورع والزهادة ونمحل جسيم من الجهاد في إعلاء كلمة الله مع العبادة، فهو إمام الكتب والكتائب، وجامع المناقب والمقانب، وهذا من البواعث لي على التوجه لتويجه كلامه وبيان مرامي مرامه.
وأما قواعد العقائد فهو مختصر في هذا الفن للإمام الغزالي، والعقائد بلا إضافة تطلق على عقائد النسفي وعلى عقائد العضد، وعلى عقائد الدواني وغيرها.
وعلى هذا المنوال قوله: وأعان لتجريد الحق ...إلخ، أي توجيها بالتجريد للنضير الطوسي والمواقف للعضد والمقاصد للسعد.
وفي عطف أعان على أبان نوع ألطافه، لكن الإعانة لا يتم معناها حقيقة على مذهبه الذي هو مذهب المجبرة، إذ لا يقال لمن كان مسلوب التأثير بالكلية أنه أعين على ما لا أثر له فيه أصلا، كما لا يقال لمن أوجد الأثر بجملته ينفر، وأنه إن أعان على غيره، والقائل بذلك متلاعب أو جاهل باللغة.
صفحہ 17
ومن أجل هذا قلنا: أن مثل قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} لا يتم معناه إلا على القول بأن للعبد تأثير في العقل الذي يستعين به عليه كالعبادة.
صفحہ 18
وأما على مذهب المجبرة من الأشاعرة ونحوهم فالإعانة والاستعانة بمعزل عن معناهما لغة وعقلا، والإمام الرازي قد أشار إلى هذا المعنى في المحصل، بل أول من نبه عليه في ظني سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه وعن آبائه الكرام وأبنائه الأعلام، وسنقف إن شاء الله تعالى في مواضع على ما يزيدك يقينا في هذا المقام، إلا أنا ننبهك على النكتة في عدم تمام معنى الإعانة والاستعانة على مذهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم في إثبات الكسب، وهي أن مرجعه أي الكسب عندهم إلى مجرد المحلية فقط، أي كون العبد الكاسب محلا لما يوجد الله فيه من الأفعال الاختيار به، ولا معنى بالإعانة المحل ولا لستعانته، إذ هو يرى على التحصيل أي تحصيل الفعل الحال فيه باختيار غيره، فكيف يستعين عليه، وكيف يتصور إعانته عليه هذا محال، ثم متى تكون الاستعانة إن كانت قبل الفعل لزم تقدم قدرة العبد المستعين، وإن كانت حال الفعل وبعده لزم طلب الإعانة على تحصيل الحاصل، والمعترض قد فسر الكسب تارات بأنه عبارة عن توهم العبد بأن له قدرة وإرادة مؤثرتين في الفعل الحال فيه، وصرح بأن هذا التوهم فاسد فلا يصح حينئذ معنى الإعانة والاستعانة أصلا في حق هذا العبد الذي لا نصيب له من الفعل الحال فيه، سوى هذا التوهم الفاسد، وهو ظاهر، وتارة يفسره أعني الكسب بأنه عبارة عن ظهور الفعل في العبد حسنا كما سيأتي فيما كتبته على قول المؤلف رحمه الله تعالى.
قالوا: قال الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} وعلى هذا فلا يتم معنى الإعانة والاستعانة، إذ ليس المراد بظهور الفعل بين العبد حسنا أنه يظهره ويخرجه وهو في العدم إلى الوجود، بل المراد أنه يكون محلا لظهور الواقع من الله تعالى، فرجع إلى كلام الجمهور من الأشاعرة، وتارة فسره بأنه عبارة عن تعلق قدرة العبد وإرادته بالفعل، وهذا المعنى لا يصح معه إعانة العبد واستعانته أصلا؛ لأن هذا التعلق المذكور مخلوق فيه كما سيصرح به فيما سيجيء إن شاء الله تعالى، فرجع هذا التفسير إلى المحلية كالذي قبله.
وبالجملة فكل ما ذكره في تفسير الكسب على اختلاف آرائهم الفاسدة لا تجده راجعا إلا إلى مجرد المحلية[7] فظهر أن الإعانة والاستعانة لا يتم معناها على مذهبهم كالجهمية وخلص الجبرية كما بيناه أولا.
والإمام الرازي لم يتعرض لهذا المعنى في بيان انتفاء معنى الإعانة والاستعانة على قاعدة الكسب، وإنما قال في المحصل ما لفظه: وإذا كان الله خالق الكفر والمعاصي كيف يستعان به، انتهى، ثم بين أن الكسب اسم لا مسمى له، والأمر كما قال.
صفحہ 19
وقد ظهر أيضا أن قوله: أبان...إلخ، هادم لمذهبه في نفي الحسن والقبح عقلا فليكن قوله: وأعان..إلخ، هادما لمذهبه في الجبر، وخلق الأعمال {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} والحمد لله رب العالمين.
ثم أنك إذا تأملت هذا الكلام وجدته لا يلائم حال هذا الرجل؛ لأن قوله: تجريد الحق مشعر بالثناء على التجريد بأنه حق.
وقوله: ومواقف الآراء المختلفة ومراصد الأهواء المضلة مشعر بذم المواقف، وما اشتمل عليه من المراصد، مع أنه معتمد عليه في النقل، وهو عمدة في مذهبه فقد انعكس في عليه الأمر، وكان من الملائم لحاله وهو لا ينافي هذا التوجيه إلى ذم التجريد؛ لأن مؤلفه الذي هو النظير الطوسي قد شمر عن ساق المساق لإدحاض كلمة الأشاعرة فيما كثر فيه الشقاق وعظم الافتراق، وكذا كان الملائم لحاله هو الإيماء إلى مدح المواقف، وما اشتمل عليه من المقاصد والمراصد، وهذا كله سهل بالنظر إلى خبطه العظيم في الأمر الجسيم، فإنه سيأتيك عجائب، وفي هذا الموضع سقطة من آثار خبطه في تلك الجوانب.
صفحہ 20
وقال أنه قال هنا: ومراصد الأهواء المضلة، فاسند الإضلال إلى الأهواء، وهو في قواعد مذهبه أن المضل حقيقة هو الباري سبحانه وتعالى، وحينئذ فكون الأهواء مضلة مجاز يحتاج إلى علاقة، وما أراه بقدر على تصحيح العلاقة بناء على مذهبه في أن الله خالق أعمال العباد أعم من أفعال الجوارح وأفعال القلوب كالهوى والغرض النفسي، وأنه سبحانه يضل عباده ابتداء بلا سبب ولا علة، بل ليس في الوجود عندهم سبب وعلة حقيقية إلا أنه كما يصرح المعترض فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام على صفاف المعاني فتأمل.
وأما قوله: وتحقيق المقاصد، فيحتمل الإشارة إلى المدح، ويحتمل الذم لمقاصد سعد الدين التفتازاني، ومن تعرض في كلامه للطائف وطبعه أجنبي عنها كبعض الأكراد فلا يكاد يسلم كلامه من الفساد.
ألا ترى إلى ما في قوله: بيت العقائد من السماحة، وهذه الألفاظ التي وجه بها غير خاف تنافي بعضها، فلا تطول ببيانه بلا حاجة.
ومنها: أي تلك الأشياء التي في خطبته ما في قوله: هو الله خالق كل شيء عامل وعمل علوي وسفلي، هابط وصاعد، فإنه ذهاب منه إلى قاعدتهم في الجبر وبنائهم على أن الله تعالى خالق لأعمال العباد كلها، سواء كانت من أعمال الملائكة العلويين أو من أعمال الشياطين أو أعمال بني آدم وسائر الحيوانات السفليين، لكن لا يخفى فساد هذا التعميم الذي في كلامه من وجوه:
الأول: أنه تعميم مبني على أن قول الله تعالى: {وخلق كل شيء} وقوله تعالى {الله خالق كل شيء} وأمثالهما من العمومات التي اعترف رءوساء الأشاعرة وأكابر الماتريدية بضعف تمسكهم بها متناولة لأعمال العباد، وهذا ميل منه إلى إثبات مسألة من المسائل العلمية بالعمومات الظنية، بل ليست من الظن في شيء كما اعترفوا به، وسيجيء نقله إن شاء الله تعالى.
صفحہ 21