وبعد خمس سنوات كانت بالبيت زائرة، وجرى الحديث عن السيد راجي، فقالت أرملته السيدة أنيسة. «كان دائما يعاكسني ويناقرني، حتى ساعة موته، قعدت ألاطفه وأسليه بالحديث ، فلم يرد علي، ولكن الله يرحمه»!
الفصل الرابع عشر
العمارة ليست ملكه
عمارة لم تكن لتزيده أمانا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
كنت قاعدا على قهوة جميلة في الجيزة، وكان الحر لا يطاق، وراقني منظر الكوب الممتلئ بالماء المثلج والذي تكاثفت رطوبة الجو على سطحه الخارجي بما يشبه الضباب، وأحسست ارتياحا إلى هذا المنظر، فجعلت أتمزز الماء من غير عطش، وأنا ألتذ برودته، وأحس كأن حر الجو قد خف.
وشربت القهوة في أناة وتبلد واسترخاء، وجعلت أتأمل نضرة الأعشاب وجمال الصبيان الذين يلعبون حول الموائد، وبينا أنا كذلك إذا بثلاثة قد دخلوا وقعدوا إلى مائدة جواري، وكان أحدهم شيخا سمينا معمما يكاد الدم يثب من وجهه، وكان معه اثنان من الأفندية، وقد اتضح لي من حديثهم أنه مقاول ثري يملك عدة عمارات في القاهرة، وأن هذين الاثنين من مستخدميه، وكان صوته يعلو في غضب، ويده تدق المائدة وهو يجادل هذين العاملين اللذين يبدو أنهما قد أهملا بعض شئونه بحيث قد أدى هذا الإهمال إلى احتمال ضياع إحدى العمارات، وقال: - لو أنكم كنتم قد احترستم في كتابة العقد بيني وبين الشيخ مصطفى لما كنا وقعنا في هذه القضية التي ربما نخسرها اليوم، أعوذ بالله يا ربي! خسارة 15 ألف جنيه، من يطيق هذا؟ وأنتم السبب؛ لو كنتم احترستم في كتابة العقد.
وكان الأفنديان العاملان عنده يخففان عنه، وقال أحدهما وهو يتضاحك: - والله يا شيخ محمد الدنيا بخير، إنت عندك خمس عمارات غيرها، إيراد كل واحدة منها فوق المئة من الجنيهات كل شهر، أكبر من مرتبات ثلاثة وزراء، افرح يا شيخ واتهنا.
ولكن الشيخ محمد بدلا من أن يفرح حمي وغضب، ورأيت يده وهي ترتعش وتضرب المائدة من جديد بعنف، وهو يقول: - أنا أئتمنه وهو يخونني؟! الشيخ مصطفى كان عاملا عندي قبل عشرين سنة، وكان يشكر الله على أني كنت أعطيه ثلاثة جنيهات في الشهر، ثم جعلته شريكا لي بقيمة العشر، ثم الخمس، ثم النصف في المكسب، حتى اغتنى وأصبح مقاولا مثلي! أنا انتشلته من الفقر إلى الغنى، أنا جعلته من الأعيان، أنا يخونني ويكتب العقد كي يخطف العمارة مني؟ هل هذا شرف؟ هل هذا عدل؟!
وهنا قال له أحد الأفنديين: - إنت عندك خمس عمارات، تبكي على السادسة ليه؟ حتى لو خسرتها اليوم إنت غني عنها!
وهنا زاد غضب الشيخ محمد، فرفس بقدميه، وضرب المائدة، وقال: - أخسر القضية ليه، أخسرها ليه؟ أنا صاحبها، والله لو خسرتها هذا اليوم ليكون بيني وبين الشيخ مصطفى دم، دم، دم.
نامعلوم صفحہ