وأما جبل لبنان فهو موضعٌ يدخل الناس إليه بين جبلين يجمع منه الريباس
الأخضر، فيقال أن الجبلين انطبقا على من بينهما وكانت عدتهم تناهز مائتي رجل وقد أكثر الناس في حديثها.
وأقامت بعد ذلك أربعة أيام في النهار والليل، ونسأل الله لطفه وتدبيره وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ومن عجيب ما شاهدنا أن جماعةً ممّن ينتابني في الطبّ وصلوا إلى كتاب التشريح، فكان يعسر أفهامهم، وفهمهم لقصور القول عن العيان فأخذنا أن بالمقس تلاقيه رمم كثيرة فخرجنا إليه فرأينا تلا من رِمَمٍ له مسافة طويلة، يكاد يكون ترابه أقلّ من الموتى به، نحدسُ ما يظهر منهم للعيان بعشرين ألفا فصاعدا وهم على طبقات في قرب العهد وبُعدِه.
فشاهدنا من شكل العظام ومفاصِلها وكيفية اتصالها وتناسبها وأوضاعها ما أفادنا علما لا نستفيده من الكتب، إمّا أنها سكتت عنها أو لا يفي لفظها بالدلالة عليه أن يكون ما شاهدناه مُخالفا لِما قيل فيها، والحسُّ أقوى دليلًا من السمع، فإنّ جالينوس وإن كان في الدرجة العُليا من التحرِّي والتحفُّظ فيما يباشره ويحكيه، فإنَّ الحسَّ أصدق منه.
ثم بعد ذلك يتخيل لقوله مخرج إن أمكن، فمن ذلك عَظم الفك الأسفل، فإن الكل قد أطبقوا على أنه عظمان بمفصلٍ وثيقٍ عن الحنك، وقولنا الكلّ إنَّما نُعني به ها هنا جالينوس وحده، فإنه هو الذي باشر التشريح بنفسه وجعله دأبه ونصب عينيه وصنَّف فيه عدة كتب معظمها موجودٌ لدينا والباقي لم يخرج إلى لسان العرب.
والذي شاهدناه مِن حال هذا العضو أنّه عَظمٌ واحد وليس فيه مفصلٌ ولا درز أصلا، واعتبرناه ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصنافٍ من الاعتبارات فلم نجده إلّا عظما واحدا من كلِّ وجه، ثم أننا استعنا بجماعة مفترقة اعتبروه بحضرتنا وفي غيبتنا، فلم يزيدوا على ما شاهدوه
منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخرى غير هذه وليت مكَّنتنا المقادير بالمساعدة ووضَعنا مقالةً في ذلك تحكي في ما شاهدناه وما علمنا من كتب جالينوس، ثم أني اعتبرت هذا العَظم أيضا بمدافن بوصير القديمة المقدَّم
1 / 61