لله ما أحلى هذه النظرات الأولى يبادلها العاشق نظرات امرأة تجتذبه! ولله أوائل حديث كأنه محاولات تفكير متردد، وتجاوب بيان؛ إذ يشعر العاشقان بفرح غريب، ويتحقق كل منهما أن صوته قد أهاج صدى كامنا في قلب الآخر، فيحيا حياة مزدوجة يدهشه تقاربها وتلامسها، وعندما يثق أحدهما بالآخر، ويتيقن من حبه، ويعلم أنه ظفر بالتآخي المنشود؛ تفيض الروحان غبطة، فتتعطل لغة الكلام؛ يسبقها الحس الباطن بإدراكه وبيانه، وإذا تخاطبت الروحان أسكت تخاطبهما الشفاه. فيا لها من أويقات صمت يمحى فيها من التذكار كل الوجود!
وكان الحب قد قبض على مشاعري منذ أول لقيا وتزايد حتى بلغ الهيام! ولكنني استحييت هذه المرأة، فوجمت أمامها لا أبدي ولا أعيد.
ولو أن هذه الحسناء لم تفتح لي بيتها بمثل هذا الولاء، لكنت عززت عاطفتي بشيء من الإقدام، ولم أكبت هذه الأشواق العنيفة التي كانت تهزني هزا كلما فارقتها ولو إلى حين، ولكن ما كان يبدو لي من صراحة وإخلاص في معاملتها لي كان كافيا لصدي عن كل إقدام، وفضلا عن ذلك، فإن مدام بيارسون لم تبذل لي صداقتها إلا استنادا إلى اسم والدي، وما كان هذا الاعتبار إلا ليزيد في احترامي لها، وفي ميلي إلى المحافظة على كرامة هذا الاسم.
قيل: «إن من تحدث عن الغرام فقد كاشف من يحدثه بغرامه.» لذلك لم أذكر الغرام إلا عرضا، وكنت كلما تعرضت لكلمة الحب أرى جليستي تقتضب الكلام وتتحول إلى موضوع آخر، وما كنت لأعرف لذلك سببا، غير أنني كنت في مثل هذه المواقف ألمح على وجهها التجهم المتألم، وما كنت سألتها شيئا عن حياتها الماضية، ولا خطر لي أن أفاتحها في هذا الأمر؛ لذلك ضربت صفحا عن كل محاولة.
وكان يقام مرقص في كل يوم أحد في القرية، فكانت تذهب إليه في أغلب الأحيان، وما كانت لتبدل شيئا من بساطة ملابسها لهذه المناسبة، بل تكتفي بوضع زهرة تربطها على شعرها بشريطة زاهية فتزيد في رونق شبابها، وكان الرقص يثير فيها المرح؛ لأنها كانت تحبه كرياضة بريئة، وكان لها مقعدها الخاص قرب جوقة الموسيقى، فكانت تتوجه إليه قافزة ضاحكة لتجتمع بصويحباتها، ثم تندفع إلى الرقص دون انقطاع، وكنت ألاحظ زوال الكلفة بيني وبينها في هذه الأوقات، فلا أشترك في الرقص؛ لأنني لم أزل في مدة الحداد. ولكم خطر لي حين أراها مرحة أن أنتهز الفرصة لأبوح لها بحبي، ولكنني ما كنت أحاول ذلك حتى أشعر برهبة لا أستطيع مقاومتها، فأعود إلى موقفي الجدي، وعزمت مرارا أن أكتب إليها، ولكنني مزقت جميع رسائلي قبل أن أصل إلى نصفها.
وفي هذا المساء، كنت تناولت العشاء معها، فبت أنظر إلى ما حولي من هدوء وسلام، وأفكر في الراحة التي ذقتها منذ تعرفت إليها، فقلت في نفسي: ولماذا أطلب مزيدا على هذا؟ أفما يكفيني ما أتمتع به؟ فما أدري لعل الله لم يقدر لي مزيدا، ولعل هذه المرأة تصدني إذا أنا أعلنت حبي لها فأحرم مشاهدتها، وهل إذا قلت لها: إنني أحبها سأزيد في سعادتها؟ وهل أبلغ أنا سعادة أوفر من التي أتمتع بها الآن؟
وكنت أفكر في هذه الأمور وأنا مستند إلى البيانو، فشعرت بحزن شديد يستولي علي، وبدأ الغسق يمد ظلاله، فأوقدت شمعة، ثم عادت نحو مقعدها فرأت دمعة تتدحرج على خدي فقالت: مالك؟ فأدرت وجهي.
والتمست عذرا فما عثرت على ما أعتذر به، وحاذرت أن تقع عيناها على عيني، فتوجهت نحو النافذة، وكان الهواء يهب بليلا، والقمر يطل وراء أشجار الزيزفون حيث كنت رأيتها لأول مرة، فحكمني الذهول، ونسيت كل شيء حتى وجودها هي، ورفعت ذراعي نحو السماء فخرجت زفرة كأنها الأنين من أعماق فؤادي.
ونهضت من مكانها فإذا هي واقفة ورائي تقول: ما هذا؟ فقلت لها: لقد تذكرت أبي وفجيعتي بموته عندما رأيت هذه الأشجار، واستأذنت بالانصراف وخرجت.
وما كنت أعرف سببا لإصراري على الصمت، وبدلا من أن أتوجه إلى مسكني ذهبت شاردا في القرية وفي الغاب، فكنت أجلس حيث أجد مقعدا ثم أنهض فجأة، وما انتصف الليل حتى رأيتني أقترب من بيت مدام بيارسون، فرأيتها مطلة من النافذة فارتعشت وأردت أن أنكص على أعقابي، فوقفت كالمأخوذ ثم تقدمت على مهل وقعدت تحت نافذتها - ولا أعلم إذا كانت عرفتني - ومرت دقائق على وجودي، فسمعت صوتها الناعم الرنان يتعالى بنشيد هيام، وشعرت بزهرة تسقط على كتفي؛ فإذا هي وردة كانت تحلي بها صدرها في المساء، فرفعتها إلى شفتي فقالت: من هنا في مثل هذه الساعة؟ أهذا أنت؟
نامعلوم صفحہ