وكنت كلما استغرقت في آلامي يحتدم غضبي، وتضطرم ثورتي، وما أدري أيصح أن أصف ما كنت أشعر به من الغضب، وكل ما أعرف عنه هو شعوري بعاطفة الانتقام، ولكن أنى لي أن أنتقم من امرأة؟ وأين السلاح الذي يمكن لرجل أن ينال به من امرأة لأشتريه بما عز وهان؟ أية ضربة أوجهها إليها وأنا أعزل حتى من السلاح الذي رشقتني بناره؟ وهل لي أن أنازلها بما نازلتني به من وقيعة واغتياب؟
ولاح لي فجأة وراء الباب الزجاجي خيال الفتاة التي كانت لم تزل تنتظر الإفراج عنها، وكنت نسيتها تماما، فنهضت من مقعدي وصحت بأصحابي: اسمعوا ... لقد أحببت ... أحببت كمجنون بل كأحمق؛ فاستحققت كل ما ترشقونني به من عار، غير أنني سأعرض عليكم الآن ما يثبت لكم أنني لم أعد ذلك الأحمق الذي تتوهمون.
ودفعت باب الغرفة الصغيرة برجلي، فانكشف مخبأ الفتاة وقد لجأت إلى زاوية لتتقي الأنظار.
وصحت بديجنه: ادخل، أنت يا من رآني مجنونا لهيامي بامرأة، أنت يا من لا تحب إلا بنات المواخير ... أفما ترى حكمتك تختال هنا في هذه الغرفة؟ سل هذه الحكمة، سل هذه الفتاة عما إذا كنت قضيت ليلتي كلها تحت نافذة تلك المرأة، فإنها أخبر من سواها ... ولكن ليس هذا كل ما أريد أن أقوله. إنك تدعوني إلى تناول العشاء معك هذا المساء، وإلى نزهة في الضواحي غدا، فأنا أقبل دعوتك، ولكنك لن تبارحني منذ الآن، لنمض النهار سوية، فأقدم لكم ما تشاءون من خمر وورق ميسر وأزهار. أنتم لي وأنا لكم؛ فلنتعاهد على هذا الشعار. لقد شئت أن أرفع في قلبي مزارا أحنط به غرامي، ولكنني سأنزل الآن هذا الغرام إلى قبر أدفنه فيه، ولو اضطررت إلى حفر هذا القبر في صميم فؤادي.
قلت هذا وارتميت على مقعد أنظر إليهم يدخلون الغرفة وأنا أشعر بالمسرة الرائعة التي يشعر بها كل إنسان يفرج كرب الاحتقار عن نفسه، وإذا ما خطر لإنسان أن يعجب لاتخاذي منهجا جديدا في حياتي، فما ذلك الإنسان بمطلع على خفايا القلب البشري، ولا هو يعلم أن للمرء أن يقف عشرين سنة على تردده، ولكن ليس له أن يتراجع إذا هو دفع بالخطوة الأولى على أي سبيل.
الفصل الثاني
ما أشبه من يصاب بالدوار بمن يتتلمذ للخلاعة والفحشاء! وما أوائل الدرس إلا رعب تمازجه لذة المشرف مرتجفا من برج مرتفع على الأعماق.
إذا كانت الرذيلة المستترة تنال من نبالة الخلق، وتحط من معزة النفس، فإن في الخلاعة الصريحة التي تقتحم الهواء الطلق شيئا من كبر الجسارة تراه متجليا في أشد الخلعاء فسادا. إن من يسير تحت جنح الليل ساترا أنفه بأردانه ليلطخ حياته متنكرا نافضا رياء نهاره خلسة، إنما هو كبعض الإيطاليين الذين يرسلون خناجرهم رشقا إلى ظهر من لا يجرءون على منازلته. إن في الزوايا المظلمة، وفي التلاقي تحت جنح الليل ما يشبه كمين الأشرار، في حين أنك ترى في مقتحم الدعارة الصاخبة شيئا من صفات المحاربين، فتحسب أنك تشاهد عراكا في موقعة، وتهتف بك الكبرياء قائلة: إن جميع الناس يفعلون هذا مستترين، فاهتك الستر أنت، وافعل علانية ما يرتكبونه في الخفاء.
وإذا ما ادرع الخليع هذه النجوى؛ فإن شعاع الشمس لينعكس ملتمعا على درعه.
قيل إن ديموكليس كان يحيا وفوق رأسه سيف معلق، وما حال الخلعاء إلا مثل حاله؛ فإن فوق كل منهم سيفا يقول: تقدم ... تقدم أبدا؛ فأنا معلق بخيط على وشك الانقطاع.
نامعلوم صفحہ