ولكنني كنت أسمع صوتا يهتف بي من الأبعاد قائلا: ألك أن تحب سواي أنت؟ لعلك جننت! أذلك ممكن لشخصين سادهما الحب فتعانقا واتحدا؟ أنت لم تعد أنت بعد، وأنا لم أعد أنا!
وكان ديجنه يقول لي: متى تسلو هذه المرأة أيها الجبان؟ أفترى في فقدك إياها خسارة لا تعوض؟ وهل كان عشقها لك اللذة الوحيدة في الدنيا؟ اتخذ لك عشيقة أخرى ولينته الأمر.
فكنت أقول له: لا، ليس فقدي لها بالخسارة العظمى، أما فعلت ما وجب علي فعله؟ أما طردتها من هنا؟ فهل لك ما تقوله بعد؟ أما الباقي فلا شأن لأحد فيه سواي. أليس للثيران إذا جرحت في الصراع أن تذهب بالنصل المغمد في كتفها إلى زاوية لتموت؟
قل لي بربك: إلى أين أذهب؟ ومن هن هؤلاء النسوة اللواتي تسوقهن الصدف إليك؟ أنت تشير إلى السماء الصافية، والأشجار الباسقة، والمساكن العالية، وإلى رجال يعربدون ويسكرون ويغنون، وإلى نساء راقصات وخيول تتراكض في السباق، وما كل ما تشير إليه هو الحياة، بل هو صخب الحياة، اذهب عني ودعني وشأني.
الفصل الخامس
وعندما رأى ديجنه أن لا دواء ليأسي، وأنني أرد كل نصح، وأقبع في داري أدرك خطورة الموقف، فجاءني في إحدى الليالي ودلائل الاهتمام بادية على وجهه، فذكر عشيقتي بلهجة المزدري، وأسرف في التقريع بوجهه إلى كل امرأة مجاريا حوافز عقيدته، وكنت منطرحا على فراشي فجلست وأسندت رأسي إلى كفي، وأصغيت بكل انتباه لأقواله.
وكانت ليلة، بدأت تهب فيها الرياح فتسمعك أنين المدنفين، وكان المطر يضرب برشاشه زجاج النوافذ، ثم ينقطع فجأة، فتحسب الطبيعة قد فقدت الحياة في فترات السكون.
في مثل هذه الساعات يحكم الألم جميع الكائنات، فتهتز الأشجار كأنها تتلوى في أوجاعها، وتحني رءوسها حزينة عاجزة، وتهرع أطيار الحقول إلى صغيرات الأشجار متزاحمة على الملجأ الأمين، فتقفر الشوارع من كل عابر.
وكنت لا أزال أتألم من جرحي.
لقد كان لي بالأمس حبيبة، وكان لي صديق، فخانتني الحبيبة، وصرعني الصديق فألقاني على فراش الأوجاع، فأصبحت وفي رأسي من الاضطراب ما لا أهتدي معه إلى حقيقة حالي، فكنت أحسب أن ما مر بي لم يكن سوى حلم مروع، وأنني سأجد سعادتي المفقودة إذا ما فتحت عيني لأنوار الصباح، ثم أعود فأرى حياتي بأسرها حلما طائشا ساخرا يتكشف لي بغتة عما استتر فيه من خداع وأكاذيب.
نامعلوم صفحہ