وانحصر تفكيري في كلمة واحدة «الرحيل غدا»، وما طال بي الأمر حتى امتنع علي أن أفهم معنى هذه الكلمة، وانتفضت فجأة وأنا أهتف قائلا: يا الله! أي خليلتي التعسة، إنني أفقدك لأنني ما عرفت أن أحبك.
وارتعشت أعضائي كأن شخصا مجهولا يصيح بهذه الكلمات في أذني، فذهبت في كل جارحة مني ذهاب الريح على قيثارة تهز أوتارها المشدودة لتقطعها.
وأحسست بآلام سنتين تخترق فؤادي في لحظة، وعلى أثرها تقبض عليه أوصاب الحاضر وليدة ذلك الماضي المشئوم، وما أجد في البيان ما أصف به مثل هذه الأوجاع، ولعل وصفها بكل جلاء لا يحتاج إلا لكلمة واحدة، ولكن هذه الكلمة لا يفهمها إلا من ابتلاهم الحب بأدوائه.
وكانت بريجيت مستغرقة في نومها وأنا مطبق أناملي على يدها، فإذا هي تتلفظ باسمي في بحرانها.
نهضت أتمشى في الغرفة والدموع تنهمر من عيني، فمددت ذراعي كأنني أحاول القبض على الزمان الماضي وقد أفلت مني، وأنى له أن يعود؟ وصرخت: أممكن هذا؟ أحق أنني أفقدك وقد امتنع علي أن أحب سواك؟ أحق أنك مولية إلى الأبد؟ أنت حياتي، خليلتي، أتهربين مني فلن أراك بعد؟
واتجهت إلى بريجيت أخاطبها كأنها تسمعني فأقول لها: لا ... إنني لن أرضى بهذا القضاء، أي معنى لهذا الكبرياء؟ أفليس من وسيلة أبذلها للتكفير عن إهانتي لك؟ ساعديني على وجود هذه الوسيلة، أفما غفرت لي ألف مرة من قبل؟ إنك تحبينني وسوف تخونك قواك إذا أنت أقدمت على جناية هجري؛ لأنك لا تعلمين ولا أعلم أنا ما سنفعل وما سيحل بنا إذا افترقنا.
واستولى علي الجنون المطبق المخوف، فبدأت أذهب وأجيء رافعا صوتي بما أقول دون هدى مفتشا هنا وهنالك عن آلة جارحة قاتلة، حتى ارتميت جاثيا أمام السرير أضرب بحافته جبيني، وتحركت بريجيت فتوقفت مذعورا.
وقلت في نفسي: إذا هي أفاقت من نومها الآن، فما أنت فاعل أيها المجنون ؟ دعها في نومها إلى الصباح، فما لك إلا هذه الليلة لتراها.
وعدت إلى مقعدي وقد كتم الخوف أنفاسي، وخيل لي أن دمي قد تجمد في عروقي مع انجماد دموعي، فلبثت دون حراك يهزني البرد هزا، فأقول لنفسي لأحتفظ بسكوني: انظر إليها! تفرس بها فلن يتسنى لك أن تراها بعد الآن.
وملكت أعصابي أخيرا، فتناثرت دموع الأسى بطيئة على خدي، وتولت سورة الغضب، فإذا مكانها سكينة الإشفاق، فأسمعني وهمي صرخة إعوال وأنين تشق الفضاء، فانحنيت على السرير أحدق في بريجيت كأن ملاكي الصالح يهيب بي لأول مرة إلى استطباع ملامحها العزيزة على صفحات فؤادي.
نامعلوم صفحہ