وكان المطر لا يزال يتساقط مدرارا، فصعدت إلى العربة متلمسا، وما ارتميت على المقعد حتى شعرت بذراعين يطوقان عنقي، وبفم يزفر بالأنين على شفتي.
هي بريجيت أتت تكمن لي لترحل معي، فحاولت عبثا إقناعها بالعدول عما نوت؛ حتى إنني وعدتها أن أعود إليها عندما أكون نسيت ما أوقعت بها من ضرر، مؤكدا لها أنني إذا بقيت لن يكون غدنا إلا كأمسنا، فكأنها - وهي تتمسك بي وأنا على حالتي - تصمم على جعلي مجرما قاتلا. توسلت وبذلت الوعود معززة بالأقسام، وذهبت حتى إلى التهديد، فما أجدى كل ذلك فتيلا؛ إذ كانت ترد كل محاولاتي بجواب واحد قائلة: أنت راحل فأنا معك؛ لنهجر هذه البلاد تاركين ماضينا فيها. لقد امتنع علينا العيش هنا، فلنذهب إلى حيث تشاء. إن الأرض لن تضن علينا بزاوية نموت فيها ... لنهنأ في هذه الحياة، فتجد في سعادتك، وأجد فيك سعادتي.
ضممتها وضممتها حتى شعرت أن قلبي يتحطم عليها، وصحت بالسائق هيا بنا، وسار الجوادان يقطعان الأرض ونحن متعانقان.
الجزء الخامس
الفصل الأول
قدمنا من باريس مصممين على الرحيل منها إلى سفر بعيد، فأقمنا في منزل خاص لنعد ما نحتاج إليه، وكأن تصميمنا على مغادرة فرنسا بدل كل شيء في نظرنا، فعاد إلينا الفرح والأمل والثقة مرة واحدة، وتبدد الحزن من حولنا، وقضت فكرة الانتقال القريب على كل مشاكسة وجدال.
واستغرقنا في أحلام سعادتنا، وأصبحت لا أنقطع عن ترديد أغلظ الأقسام بأنني لن أتحول عن حبي ما عشت، موجها كل عنايتي إلى إنساء خليلتي كل ما حملتها من شقاء وأوصاب، وما اكتفت بريجيت بإنالتي عفوها، بل أظهرت أنها لا تتردد في تضحية كل ما عز للحاق بي، وهكذا رأيتني مدفوعا بدافع الإنصاف إلى مبادلتها إخلاصها بمثله، فتغلب حبي لبريجيت وإعجابي بها على ما بقلبي من جامح النزعات.
وانحنت يوما على «الخريطة» مفتشة عن مكان نتوارى فيه، وما كان وقع اختيارنا على مكان موافق بعد، وكنا نطيل التردد متلمسين في الحيرة لذة جديدة ونحن مكبان على الرسوم يصدم جنبي جنبها، ويطوق ذراعي خصرها، فتسألني وأسألها عن مكان عزلتنا، وعما سنفعل في حياتنا الجديدة.
بأي بيان أوضح ما كان يخالجني من ندم على ما فات عندما كنت أرفع رأسي متأملا في هذا الوجه الشاحب الحامل آثار الآلام الماضية، وقد أنارته ابتسامة الأمل، وكنت أنصت إلى كلماتها العذبة تصور ما سنكون عليه، فأتمنى أن أريق دمي فداء لها.
أي أحلام المنى، لعلك أصدق سعادة نتمتع بها في هذه الحياة!
نامعلوم صفحہ