وقلبي من ذكري الفرادس دامي
فيا حلم الفردوس حبك ذكرة
لأيام عيش في الجنان وسام
ففي بعض الأحايين أرى في اليقظة أحلاما لا أقدر على وصفها من فرط جمالها، ولكني في بعض الأحايين أرى أحلاما سوداء من أحلام اليأس والأسى، فأخشى كل مصائب الحياة التي يمكن أن يصورها الخيال في صحائفه ذات الألوان الكثيرة المختلفة، وأتوقعها وأحسها وأتألم منها مثلما أتألم منها لو أنها وقعت بي. فأخشى الكهرباء في السحاب، وفي عرباتها، وما ركبت عربة منها إلا خشيت انكسارها. وأخشى أخطار السكك الحديدية في الأسفار، وأخشى الحريق كل ليلة أو نهار، وأخشى وقوع المنازل أو سقوط شيء من نوافذها إذا كنت بين المارة. وأخشى الكلب الكلب، وأخشى الحشرات مثل الثعابين والعقارب، وأخشى الفئران والصراصير. وأخشى البرق أن يصيب عيني بأذى، وأخشى اللصوص على عدمي، وأخشى الحاجة والفقر المترب، وأخشى العمى، وأخشى الجنون، وأخشى الأوجاع والأمراض. وأخشى الموت ولا سيما الموت المؤلم، وأخشى الحياة وما قد تأتي به من الأحزان والمصائب، وأخشى البرص، وأخشى الطاعون. وأتوقع كل المصائب والأضرار وأتألم منها كأنها قد حلت بي جميعها. وهذا التألم من جنون الخوف الذي سببه الخيال. ومن أجل ذلك كان من رحمة الله أن الخيال في الجمهور من الناس كالنسر الحبيس لا يبلغ الشمس ولا يفترس الطير.
سوء الظن
إني أسيء الظن بكل شيء، سواء الحميد والذميم. فلا غرو إذا رأيت في الضياء ظلاما ورأيت في سواده ما يخلقه سوء الظن من الأوهام التي هي كخيالات الشياطين في ظلام الليل. ومن بلغ به سوء الظن هذا المبلغ يسمع همس شياطينه في أذنه، فإذا تلفت إلى يمينه وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليمنى، وإذا تلفت إلى يساره وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليسرى. ومن العجيب أن هذه الشياطين التي يخلقها سوء الظن لا تخفي قبحها لتخدعنا، بل تظهر قبحها في حركات وجهها وجسمها. هذه الشياطين هي الخواطر التي يهيجها سوء الظن، تمرح في ظلامه كما يمرح الوطواط في الظلام، وتؤدي بالمرء إلى الجنون. نعم، فإني قد عانيت من أجلها الجنون، وجرعت كأسه المرة وبلغت أعماقه. ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه، ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه، ذلك الجنون الذي لا ينسي المرء الذكر والأماني.
على أني لا أقول إن سوء الظن كاذب أبدا، إذا كان في الكون حق، فالحق ما يسيء ظنك بالناس؛ فإنهم خليقون بأن تسيء بهم الظن. ولكن ينبغي أن تسيء ظنك بنفسك، كما تسيء الظن بالناس، أليست نفسك من نفوس الناس؟ ومن أجل ذلك كنت أحيانا أسيء ظني ببعض الناس، ثم أسيء ظني بنفسي، وأتهمها في ظنها، ثم أسيء ظني بالشيء الذي جعلني أتهمها بسوء الظن ... وهكذا، لا حد ولا نهاية لسوء الظن.
إني أسيء الظن بالناس؛ لأن في كل عمل يعملونه من الأعمال - حتى الحميد منها - شيئا من اللؤم والدناءة. وقد بلغ بي سوء ظني أني ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يذكراني بسوء، فأنا من الذين يصدق فيهم قول بشار بن برد:
يروعه السرار بكل شيء
مخافة أن يكون به السرار
نامعلوم صفحہ