أحلام الأدباء
إن كل أديب أو شاعر أو فيلسوف في أول أمره؛ أي في شبابه، يحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن كل شيء فيه من أجرام أو علوم، أو آداب أو أنظمة، أو آراء أو عواطف تدور حوله، منجذبة إليه؛ فيظهر الشاعر وفيه من الكبر والغرور ما لو وزع على الناس لملأ نفوسهم. فيرى أن أشعاره هي الشعر وليس غيرها شعرا، وينظم القصيدة فكأنه قد تمخض عن وليد! ويحسب أنه لو وضع شعره في كفة ميزان، ووضع الوجود في كفة أخرى لرجح شعره، ويرى أن الذكاء مقصور على الشعراء، ويحسب أن كل حسناء تنشد قول شوقي:
أنتم الناس أيها الشعراء
فإذا نشرت له قصيدة في الجرائد حسب أن قد قرأها جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وأنها قد سارت بها الركبان، وأن ليس للناس حديث غيرها، وأن الملائكة تتغنى بها، وتحدو بها الأفلاك في دورتها، وأن أهل الجنة يتخاطفون الجريدة التي نشرت فيها، وأنهم يتسابقون إلى قراءتها، وأنها تلهيهم عن الرحيق وعن غير ذلك من ملذات الجنة، وأن الحور والولدان ترقص في الجنة على نغمها، وأنهم أرسلوا إليه وفدا يهنئه بها ويشكره عليها.
ما أشد الدافع الذي يدفع المرء إلى ما تتهيأ له نفسه وما يميل إليه قلبه من الأعمال، حتى ولو كان رزقه في غيرها! إنه ليلهي المرء عن معاشه ومورد كسبه ورزقه، وإنه ليلهيه عن كل ما تطيب به الحياة من الجاه والمنزلة العالية. إني لأذكر يوم نشرت لي أول قصيدة، وقد اشتريت الجريدة التي نشرت فيها، وصرت أقرأ القصيدة مرات عديدة، وكان يخيل لي أن الحروف ترقص على الجريدة. وصرت أخبط خبط الضال في الطرق والأزقة، وكلما نظر إلي أحد حسبته قد قرأ القصيدة وأعجب بها. وكان يخيل لي أنها أحدثت أثرا باقيا في نفوس الناس، وأنها أصلحت من عواطفهم وقوتها، وزادت في عظم نفوسهم، وأنها ستحدث تغييرا كبيرا في سنن الوجود وأنظمته. وخيل لي أن الهواء الذي كنت أنشقه في ذلك اليوم غير الهواء الذي أنشقه كل يوم، بل ذاك كان أرق وأحلى!
ولا يعدل مقدار هذا السرور شيء غير الحزن والغيظ الذي نالني حين قرأت نقدا لها في إحدى الجرائد، فخيل لي عند قراءته أن هناك مؤامرة في هذا الوجود، يراد بها ضري والإساءة إلي.
ولكن بعد ذلك ألفت المدح والذم. وإلف المدح والذم يفيد في الحياة، أليس يغيظك أن يمدحك رجل ثم يغضب إذا لم تشكره على مدحه؟ فإن هذا المادح إنما مدحك كي تغتبط بمدحه، وهو يحسب أنه لو ذمك لحزنت لذمه! هذا ولا شك غرور منه وعدوان؛ أي رغبته في أن تعلق فرحك وحزنك بحسن رأيه أو سوء رأيه فيك.
ولا أكتمك أني أحتقر رأي الجماهير؛ فإن ذوق الجماهير في الآداب والفنون فاسد في كل مكان، فهم يحسبون أن من أجاد التهاني والمدح والمراثي والأهاجي، وأوصاف الحوادث اليومية الحقيرة، كان من الصنف الأول من الشعراء. وأنا لا أعد هذا من الصنف العاشر، هذا شاعر الحقائر، شاعر المظاهر الكاذبة والقلوب الكاذبة. وإنما الشاعر شاعر القلب، فهو الذي يصف عواطف النفس وأطوارها؛ فيصف عواطف الحب والجمال والجلال، والخوف والفزع والأمل، واليأس والرحمة والكره والحقد، والبخل والجود، والشجاعة والجبن ... وغيرها من عواطف النفس وأحوالها. وهو الذي يصف أساليب الحياة التي تجول فيها هذه العواطف كل مجال، ومظاهر الوجود التي تتعلق بها العواطف، فهو الشاعر الذي عواطفه مثل عواطف الوجود، مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء، فإن هذه عواطف الكون. وهو الذي يحكي قلبه الأركستر الكثير الآلات، الكثير الأنغام. ولكن ينبغي لمن يحس في نفسه عظمة الفكر وجلاله وقوة العواطف ألا يغتر بها؛ فإن الناس يهمهم اسم الأديب أو العالم، ويحفلون به أكثر مما تهمهم مؤلفاته حتى بعد موته. أليس الناس تهمهم أسماء شكسبير وفكتور هيجو وجيتي وأفلاطون وأرسطاطاليس أكثر مما تهمهم مؤلفاتهم؟
أطوار العقيدة
لقد كنت في صغري كثير الاعتقاد بالخرافات، وكنت ألتمس العجائز من النساء، أسمع قصصهن الخرافية، حتى صارت هذه القصص تملأ كل ناحية من نواحي عقلي، وحتى صارت عالما كبيرا، ملؤه السحر والعفاريت، وحتى صارت العفاريت حولي، تحل حيث أكون. وأذكر أني رأيت مرة عفريتا على سطح منزلنا، وكان أسود الجسم، شخصه مثل شخص الإنسان، ولكن جسمه يعلوه الشعر الكثيف، ولا أدري أكان عفريتا، أم كان من مخلوقات الخيال، أم من ظلال الثياب التي كانت معلقة على الحبال لتجف؟ ولما حدثت العجائز بأمر هذا العفريت، جعلن يعلقن على جسمي التمائم، ويرقينني بالرقى.
نامعلوم صفحہ