ابراہیم ثانی
إبراهيم الثاني
اصناف
ونهضت ودارت أمام المرآة، وتأملت قدها من الجانبين، ومن خلف ومن قدام، وحدثت نفسها أنها هى أيضا أمتعته. ولم تقل ذلك على سبيل المن، بل إعجابا بحسنها، فما كان يخفى عليها - ولا كانت فى هذه اللحظة تنكر - أنه كان أسهل شىء على إبراهيم أن ينال منها كل منال. فما كانت تشعر، إذ تكون معه أن لها إرادة غير ما يريد، وكانت ربما اشتهت أن يرخى أصابعه ويدع اللجام يفلت من بينها. ولكن وطأة هذه الرغبة لم تكن تثقل عليها أو تلج بها. وكانت تحس - ويخيل إليها - أنها ما تمنت ذلك أحيانا إلا من أجله، ولتهبه من السعادة كل ما لعله يحلم به. وكان يطيب لها أن تغالط نفسها على هذا النحو، وأن تتصور أنها مصدر سعادة له، وأن عندها ذخائر من الاستمتاع بحسنها فوق ما فاز به ونعم. وكانت ربما تعجبت لزهادته وقناعته، وخشيت أن يكون ذلك مرده إلى نقص فى فتنتها وقوة جذبها عن حد الكفاية. فلولا صراحة إعجابه بها، وخوفه عليها، وضنه بها، لعذبها هذا الشك الذى كانت وساوسه تهجس فى خاطرها كلما أقصر.
وألفت نفسها تكبر منه، وتحمد له، أنه أكرمها، ووقاها ما كان غيره خليقا أن يجرها إليه، وصانها عن الشعور بالابتذال. ولقد قتر عليها، ولم يعاطها الحب إلا بقدر يكفى أن يعفيها من عذاب الالتياح وإن كان لا يبلغ أن يكون ارتواء. ولكنه قتر على نفسه أيضا، وتجشم فى ذلك ما لم تتجشمه هى، فقد كان الزمام فى يديه، والمجهود كله مجهوده، فإن شاء أخب وأوضع وإن شاء تمهل وترفق، فأبى إلا التحرز.
وأحست أن نفسها تفيض بالشكران له على ما توخى من تجنيبها الامتهان، ولو كان أزال ما يجب أن يصان، لما وسعها أن تلقى صادقا بما لقيته وتلقاه به.
صادق ...
وأدارت اسمه على لسانها كأنما تريد لتتذوقه.. فأحست بمثل النار تندلع فى صدرها، وتتقد علوا وسفلا، فرفعت يدها إلى وجهها تتحسسه وتجسه، فوجدت بردا، ولم تجد حرا، وحدثت نفسها ساخرة أن هذا لنعم القريب المحب العاشق.. توليه الثقة التى لا يستحقها، عملا بمشورة إبراهيم وتؤثر معه الحسنى، وتبدى له صفحة الود، لتتألفه وتغريه بأن يكون شيئا، فينقلب وحشا يستدرجها إلى مهمة قفر ليفتك بها زاعما أن هذا من الحب! وهو مع ذلك قريبها، ومن لحمها ودمها، فكان حقه أن يصونها ويعف كما عف عنها إبراهيم وليس من نسبها، فإذا كان يهم بها هذا الهم، ولا تمنعه قرابة الدم أن يحاول اغتصابها، فماذا تراه يصنع باللواتى لا تصله بهن صلة رحم كفتحية مثلا؟ تلميذته التى ترى له عليها حق الأمر.
ومطت شفتيها لما ذكرت فتحية. ولم تنكر أن لها جمالا ولكنها أنكرت أن صوتها يطاق، وشبهته بصوت زمارة ينفخ فيها من لا يحسن الزمر. وليست هذه بالتلميذة الوحيدة ... وكل همه أن يكون مونولوجست.. بففف! وإن أباه لفى سعة، ولكن لا هو ولا أبوه يخطر لهما أن يصنعا شيئا يعالجان به هذه البطالة المزرية. هى فتاة تكسب رزقها بعرق جبينها، وهو فتى لا يستنكف أن يعيش حميلة على ذويه، وهذا هو الذى يطمع فى، ويحلم بأن أكون له زوجة.
ومع ذلك أحست أن قلبها يرق له. وإنه لجدير بكل ما صبت على رأسه من نعوت ولكنها لا تحفل ذلك كثيرا وإن كان يمضها ويرمضها. أليس من رحمها وإن كان عاطلا؟ وإن الفتيات ليحمن ويلبن عليه كالذباب.. أى نعم كالذباب. فما هى بخير منه ولا أطهر.. فلا بد أن له مزية.. فتنة.. جذبا.. وإلا لما قدر على ذلك.
واعترفت أن له جذبا. ولكنه يخيفها ويفزعها. أما لو لا ذلك، لولا خشيته لأمكن أن.. ماذا؟ أترى إبراهيم قد صدق، وصحت فراسته حين قال لها إنها تحبه فى قرارة نفسها وهى لا تدرى؟ نعم تنطوى له على الود والعطف والأسف لما هو فيه. ولكن.. كيف تحبه وهو عاطل؟ وكيف تأمنه وتطمئن إليه وهو لا ينفك يحمل على ذراعه فتحية ونظائرها ولا يشعر بارتباك أو خجل حين تلقاهما معا؟؟
وذهبت تقطع الغرفة جيئة وذهوبا، ثم انحطت على الكرسى وقد أحست أنها تعبت. وتجمعت العبرات فى مدمعها وحلقها، وجاهدت أن تردها، ولكنها ارفضت فتركتها تقطر على خديها، أو تنهمل، ولم يكن يسمع لها بكاء. ولكن صادقا كان قد استبطأها، فدخل عليها - كالثعلب - فالفاها هكذا جالسة، ورأسها مثنى على صدرها، والدموع تتسايل على وجهها، وتقطر على كفيها فى حجرها، فخطا إليها بسرعة وجثا أمامها وراح يلثم راحتيها باطنا وظاهرا، ثم رفع رأسها وجفف لها دموعها بمنديل، ثم ضمها إليه حانيا عليها، مريحا خده على شعرها.
فتنهدت وهمست: «صادق».
نامعلوم صفحہ