ابراہیم ثانی
إبراهيم الثاني
اصناف
وهى طراز اخر من الأنوثة. لا تشابه تحية، ولا تشاكل عايدة، شبابها ريان، وجسمها بض فى نصاعة لون، ووجهها كأنما يترقرق فيه ماء الحياة من نضرة النعمة، رشوف، عبقة، لبقة، لينة فى منطقها وعملها، ناعمة فى ملمسها، مطواع، لا كبر بها ولا تكلف، تتجمع أنوثتها فى عينيها الدعجاوين، وتنطق منهما حين تبتسم فتضيقان. لا تعرف قولة «لا» ولا تحسن أن تقول: «نعم» ولكنها تحسن أن تفعلها. أبرز صفاتها البساطة والقناعة. فهى تأخذ الأمور مأخذا سهلا وتتناولها من قريب، وتقنع بالميسور، ولا تعنى نفسها بما كان خليقا أن يكون من خير أو شر. وتنظر إلى ما يسوء من جهته التى تجعله أضوأ أو أخف وأهون. وكانت صادقة لا تكذب، لأنها ما عرفت ولا أحست حاجة تدعوها إلى الكتمان أو مجانبة الحق. ولم تكن غريرة، ولكنها لم تكن مجربة، فهى تدرك مطالب أنوثتها. ولكن ما اعتادت - أو ما فطرت عليه - من تلقى الحياة بالرضى والتسليم والتهوين، يمنعها أن تلج بها رغبة، ويحميها أن يجمح بها مشتهى أو يشقيها حرمان أو يذلها للرجل أنها مفتقرة إليه. ولم تكن بها جفوة أو جمود، ولكنها كانت ساكنة متزنة، إذا جاعت صبرت ولم تتلهف، وإذا شبعت شكرت، ولم تر أن تصيح من فوق الماذن بشكرها وسرورها، ولم يبطرها أو يغرها إحساسها بالشبع والرضى. وكانت دائمة البشاشة والتهلل، لا تستطيع أن تقطب حتى حين يغضبها أو يؤلمها شىء. وكانت لبسة صناعا تحسن انتقاء الألوان وتؤثرها بسيطة، ولا تحبها زاهية أو مختلطة أو كثيرة الوشى والتفويف. وكانت تبدو كأنها لا تدرك أن لها من المحاسن ما يصبى الرجل إليها، ويفتنه بها. فكان يحاول على سبيل التجربة أن يثير فيها هذا الإدراك الذى خيل إليه أنه ناقص، فيروح يصف لها مواطن الحسن فى تكوينها وفى طباعها، فتبتسم أو تضحك. ولكنها لا تبدو كأنها تصدق. وكانت ربما قالت له حين يلح عليها بهذا الكلام كأنما يدعوها إلى الإعجاب بنفسها: «إذا رسمت صورة جميلة فهل يكون للصورة فضل فى جمالها؟» فكان يقول لها: «اسمعى. إن لكل إنسان حظه الموفور من الغرور، ولست أدرى - ولا أنا أستطيع أن أتصور - كيف يمكن أن يطيق الإنسان الحياة لو فقد الغرور، والغر ور فيما يرى الناس رذيلة، ولكنى أراه نعمة، أو على الأقل القدر الكافى منه لإطاقة العيش. وأنت كغيرك لا بد أن يكون لك شعور بنفسك، وإلا كنت كالحيوان الأعجم الذاهل عن نفسه وعن الدنيا. والإنسان يصاحب الحيوان ويبادله قدرا من الود والإحساس، ولكنه لا لذة له فى مصاحبة إنسان مثله إذا كان معدوم الإحساس بنفسه. وأحسبك تتكلفين هذا الذهول، وإنه لتواضع أو أدب منك جميل. ولكن الإفراط فى تكلفه يخرج بك عن حد الطبيعة القويمة التى لا تعترف بهذا التجاهل التام للنفس».
فتقول: «ولكنى كما تقول مغرورة، وحظى من الغرور أوفر مما تظن. ولكن هذا لا يدعو إلى الإثقال على الناس».
فيقول: «إذا قلت لك بلهجة المؤمن بما يقول، المخلص فيه، إنك دميمة أفلا يسوءك هذا؟»
فتقول: «نعم. ولكنك لست الناس جميعا، والذى تراه أنت قبيحا قد يراه غيرك جميلا أو حميدا».
فيسره منها هذا الأسلوب فى تناول الأمور، والنظر إليها من أكثر من وجه واحد لتسهل به وتهون.
فيعود فيقول لها: «وقياسا على هذا يسرك أن تسمعى من رجل أنك جميلة».
فتقول: «طبعا. ويزيد فى سرورى أن يفيض ذلك، ويبدئ ويعيد، حتى ولو لم يكن مخلصا».
فيقول: «إذن لماذا تبدين كل هذه الدهشة حين أذكر مفاتنك؟»
فتضحك وتقول: «لأستزيدك ولأغريك بالتكرير والتأكيد».
ولم يستطع أن يثير فيها الإعجاب «الظاهر» بنفسها، ولكن إلحاحه عليها بالثناء على ما يحمد من مزاياها وصفاتها المحببة، أثمر شيئا آخر هو حرصها على دوام تميزها بهذه الصفات، وضنها بها أن تحتجب أو تفتر. وهذا فعل الإيحاء. وكان الإيحاء الخفى اللبق سبيله مع المرأة، يصبها به فى القالب الذى هو أشهى إليه وأحب. وقد حذق ذلك حتى لقد قالت عنه تحية مرة: «إنى لا أستطيع أن أقاومه أو أغالبه، لأنه يستولى على، كالنوم، بلا ضجة أو عنف أو رجة، بل من غير أن أشعر، وبعد أن يقهرنى يدعنى للطبيعة، ولا يحاول التظاهر بصولته وقدرته. ومن يدرى؟ لعله لو كان اشتغل بالتنويم المغناطيسى لكان أبرع فيه من «طهرا بك» الذى يفعل العجائب ويأتى بما يشبه السحر». وكانت هذه مبالغة من امرأته. ولعله يسرها أن تبدى جانب الضعف والخضوع ليلقى سلاحه ويطمئن ويحسب نفسه قد أمن، فتعود فتكر عليه وهو غافل، ومن مأمنه يؤتى الحذر.
نامعلوم صفحہ