ابراہیم کاتب
إبراهيم الكاتب
اصناف
فرفع كفيها عنه في رفق وقال بلهجة من يريد أن يطمئنها وإن لم يكن في كلامه ما يعين على ذلك: ولكن هذا مستحيل يا ماري! لقد أبرقت إلى بعض أقاربي أنبئهم باعتزامي السفر غدا وأطلب أن يرسلوا من ينتظرني. - أبرق إليهم مرة أخرى بعكس ذلك.
فهز كتفيه وقال: وما الفائدة؟ سأسافر بعد غد إن لم أسافر غدا! فالرحلة لابد منها على كل حال.
وهم أن يدعوها إلى التمشى قليلا ليسرى عنها، غير أنه عاد فرأى أنه من الأحزم والأجدى أن ينتهي الوداع حيث هما. فاكتفى بأن يهون الأمر عليها - وعلى نفسه أيضا - ببضع كلمات، ثم ربت لها ذقنها بأطراف أصابعه وسلم، فقالت بعد أن تلفتت يمينا ويسارا كأنما كانت تحدث نفسها باختلاس ضمة: «يا له من حلم قصير»! وكان قد خلى يدها وناى خطوة فقال: لالا! لا تقولي هذا يا ماري! لو كنت ممن يتشاءمون لما حسن وقع ذلك في نفسي قبيل سفري!
فنبهها ذلك فدنت منه وأقبلت عليه تؤكد لها أنهما سيلتقيان. أما هو فسلم مرة أخرى وشور لها بيده وهو يبتسم ولم يجب!
الفصل الخامس
«قلت أكون حكيما أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف ...
بعد أن انطلق إبراهيم من الغرفة التي كان فيها مع شوشو وخرج منها مارقا كالسهم، انحدر مسرعا إلى غرفة نومه واستلقى برهة على «كنبة» فيها وأغمض عينيه كالذي يريد أن ينام، وما به من نوم، فكر أمام مخيلته كل ما وقع له مع «ماري» مما قصصناه وما لم نقصصه في الفصل السابق، فعاوده الحنين إليها والأسف على فراقها والألم لما خلفه لها، ولم يكن إبراهيم ممن يحبون أن يخدعوا نفوسهم وينحلوها من المزايا ما عطلت منه، وكان يؤثر أن يغمط نفسه وأن يعدها مجردة من كل ما يجعله حبيبا إلى النساء مرموقا منهن، ولعل السبب ذلك أنه أحس بالجمال، وأحسن تقديرا له، وأشد شعورا بمواطن الضعف في نفسه، وأفطن من أن يتأتي له أن يغضى عن هذه العيوب وألا يكترث لها، أو أن ينحيها عن عينيه ولا يدعها تبرز وتحجب مزاياه. ولذلك لم يلبث أن راح يتصور «ماري» متلهية عنه بكل ما يعدها صباها وجمالها له. ومن هو إبراهيم حتى تشغل نفسها به وتشيح بوجهها عن الدنيا من أجله؟ إن صباها الذي ألقت بها حرارته بين ذراعيه خليق أن يلقي بها بين ذراعي سواه، ولن تعدم رجلا يكون أفتن منه وأوفى أيضا! وأي حق له عليها بعد أن آثر أن يطرحها ويفر منها على هذه الصورة ولا يترك لها حتى عنوانه؟ وهكذا ظل يحمل على نفسه حتى آلمها فنهض وقد ضاق صدره وفتح النافذة لتخلص أنفاسه قليلا، وكانت نافذته تطل على فناء خلفي رحيب، بعضه - وأكثره - بستان زهر وشجر باسق، وبعضه بيوت للدجاج والإوز والحمام والأرانب وغيرها، وحوله سور أسفله مبني بالآجر وأعلاه مصنوع من قوائم من الحديد مغطاة من الداخل بالحصير، ليحجب من يكون في الداخل من عيون المارة. وفي الجنوب باب للخدم وقد يدخل منه الزوار من النساء أحيانا إذا شئن، وكذلك من الرجال الذين يمتون إلى أهل هذا البيت بصلة من قرابة أو مصاهرة. ورأى إبراهيم الخدم يدخلون ويخرجون، وحديد الباب يلمع في ضوء الشمس فأدرك أن دهانه جديد، وراقه أن يراقب الداخلين والخارجين وما يصنعون إذ يفتحون الباب أو يغلقونه، ومبلغ التفاتهم إلى الدهان، وعنايتهم باتقاء تلويثه لأيديهم أو ثيابهم. فلم يجد الرجال - وكانوا قليلين على كل حال - يتفاوتون تفاوتا يذكر، وكان كل منهم يدفع الباب برجله فيفتحه ويدخل ثم يعود فيدفعه من الداخل أيضا؛ أما النساء فكن أكثر اختلافا: جاءت أولاهن - أو أولى من أبصر منهن - في ثوبها الأسود الذي يكنس الأرض وراءها وذراعاها مثنيتان إلى صدرها وعموديتان عليه، وكفاها مفتوحتان كأنما تريد لتتقي بهما شيئا، فلما بلغت الباب دفعته براحتيها ودخلت، وكأنما أحست أن شيئا قد لصق بهما فنظرت إليهما وصاحبت «يوه» ووقفت مكانها حائرة، ثم كأنها لم تدر ماذا تصنع فجعلت تتلفت يمنة ويسرة ومضت إلى أقرب رجل أخذته عينها لتستشيره على الأرجح ولم تصوب نظرها مرة واحدة إلى ثوبها لترى ماذا أصابه! وبعد قليل جاءت أخرى على رأسها سلة مغطاة فلما بلغت الباب منحته جنبها ودفعته بكتفها، ودخلت مطمئنة غافلة عن الخطوط وأنصاف الدوائر التي ارتسمت على ذراعها مما يلي الكتف! فرفهت هذه المناظر وأمثالها عن نفس إبراهيم، وانبسطت أسارير وجهه ولمعت في عينيه ابتسامة خفيفة، وإنه لمشرف على هذه الصور وإذا بصوت من ورائه يقول: «خالي! شوشو تسأل عنك»! وكان المتكلم محمد ابن نجية. وهو وأخته يدعوانه خالهما اختصارا. فالتفت إليه كالمفيق من حلم أو كأنما كان قد توهم وهو مطل من النافذة أنه مشرف من السحاب، فلما سمع الصوت الذي يناديه أحس كأنما هبط إلى الأرض. ولكنه إحساس لم يطل فتناول الصبي ورفعه إليه وطبع على فمه قبلة أبوية وسأله: «أين هي»؟ فقال الغلام: «في غرفة الاستقبال» ويظهر أن إبراهيم استغرب هذا فصمت قليلا كأنه يفكر ثم قال: «حسن قل لها إني هنا لا أصنع شيئا. فلتأت إذا شاءت».
فخرج الغلام يعدو، ومشى إبراهيم إلى السرير ووقف معتمدا بظهره عليه. وكان دقيق الملاحظة كثير التفكير في كل ما يرى أو يسمع، ومن عادته إذا خلا بنفسه ولم يرغب في المطالعة أن يدع خياله يرسم له مناظر ومواقف وينشئ محاورات وأحاديث. فجعل يفكر في قول الصبي إن شوشو في غرفة الاستقبال: في غرفة الاستقبال؟ لقد تركها هناك! فهل تراهها لم تبارحها. وكم دقيقة أو ساعة مضت عليها منذ غادرها، وامتدت يده إلى جيبه مدفوعة بحركة لدنية وأخرجت الساعة، وتأملها ولكنه لم يقرأ فيها شيئا بل ابتسم إذ تذكر أنه لم ينظر إلى الساعة حين غادر شوشو فلا يستطيع أن يعرف كم لبثت في هذه الغرفة. ولكن لماذا تبقى في الغرفة وحدها ولا تزايلها؟ ما أغرب أمر هذه الفتاة! أتراها ساءها ما بدر منه؟ ربما! بل لا شك في ذلك فإنها فتاة متعلمة مهذبة ولا بد أن يكون قوله لها «يا بلهاء» قد حز في نفسها، وانطلق يلوم نفسه ويعنفها ويستهجن شكاسة طبعه.
ودخلت شوشو تنساب كالماء فتقدم إليها باسطا كلتا يديه وقال: اعتذر إليك يا شوشو! سامحيني! لقد أسأت إليك وكان ذلك سوء أدب مني بلا ريب. فهلا تغفرين؟
فتناولت كفيه في كفيها وجذبتهما إليها وفي عينيها نور البشر وحول وجهها كالهالة، وقالت وأمالت رأسها إلى كتفها اليسرى: «تعتذر إلي؟ مم بالله؟ هيه؟ تعال هنا»، ومضت به إلى الكنبة: «قل لي ماذا كنت تصنع وحدك هنا! أتراك جئت لتقضي الوقت كله في هذه الغرفة؟ اسمع! سأغلقها بيدي بعد أن تستيقظ من النوم وأحفظ مفتاحها معي ولا أسمح لك بدخولها إلا وقت النوم، أفهمت»؟
نامعلوم صفحہ