Ibn Taymiyyah: His Life and Times, Opinions and Jurisprudence
ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
ناشر
دار الفكر العربي
محمد أبو زهرة
ابن تيميَّة
حياته وعصره - آراؤه وفقهه
ملتزم الطبع والنشر
دَارُ الفِكْرِ العَرَبِىُّ
1
محمد أبو زهرة
ابن تيميَّة
حياته وعصره - آراؤه وفقهه
ملتزم الطبع والنشر
دَارُ الفِكْرِ العَرَبِىُّ
1
2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد كتبت في الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب التي تقاسمت الجماعة الإسلامية من حيث انتشارها وذيوعها والأخذ بها، وقد أفردت لكل واحد مجلداً فصلت فيه القول في حياته، وعصره، وعلمه وفقهه ومناهج استنباطه، وألقيته دروساً على طلبة قسم الشريعة من الدراسات العليا بكلية الحقوق من جامعة القاهرة.
ولما وفقني الله سبحانه وتعالى إلى إخراج هذه المجموعة الفقهية والتاريخية لجمهرة العلماء والمثقفين في مصر، اتجهت النية إلى دراسة الطبقات التي تلي الأئمة الأربعة من المجتهدين الأحرار، أو المجتهدين المنتسبين إلى مذهب من مذاهبهم؛ وقدمت ذلك على دراسة الأئمة الآخرين كجعفر بن محمد إمام الإمامية، وزيد بن علي إمام الزيدية، وأبي داوود الظاهري، وابن حزم الأندلسي إمام الفقه الظاهري في مصادره وموارده.
وإنما اخترت بعد الأئمة الأربعة دراسة المجتهدين على مناهجهم؛ لأن ذلك دراسة لفقه الجماعة الإسلامية، وتعرف لأدواره، وتقصّ لثمرات ما غرسه أولئك الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة، فهو تكميل لا إنشاء؛ واستمرار لا ابتداء.
وعندما اتجهت ذلك الاتجاه، برز إلى الخاطر إمام شغل عصره بفكره ورأيه ومسلكه؛ فدوى صوته بآرائه في مجتمعه، فتقبلتها عقول واستساغتها، وضاقت عنها أخرى وردتها، وانبرى لمنازلته المخالفون؛ وشد أزره الموافقون؟ وهو في الجمعين يصول ويجول، ويجادل ويناضل؛ والعامة من وراء الفريقين قد سيطر عليهم الإعجاب بشخصه وبيانه، وقوة جنانه وحدة لسانه؛ واعترتهم
3
الدهشة لما يجىء به من آراء يحدد بها أمر هذه الأمة ، ويعيد إليها دينها غضاً قشيباً كما ابتدأ .
ذلكم الإمام الجرىء هو تقى الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة ؛ والرسائل المنضودة ، اتجهت لدراسته مستعيناً بالله سبحانه ؛ لأن دراسته دراسة الجيل؛ وتعرف لقبس من النور أضاء فى دياجير الظلام، ولأن آراءه فى الفقه والعقائد تعتنقها الآن طائفة من الأمة الإسلامية تأخذ بالشريعة فى كل أحكامها. وقوانينها ؛ ولأننا نحن المصريين فى قوانين الزواج والوصية والوقف قد نهلنا. من آرائه ، فكثير مما اشتمل عليه القانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ مأخوذ من. آرائه، مقتبس من اختياراته ، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها فى قانونى الوقف والوصية من أقواله .
ثم إن دراسة ذلك الإمام الجليل تعطينا صورة للفقيه قد اتصل بالحياة ، وتغلق قلبه وعقله وفكره بالكتاب والسنة والهدى النبوى ، والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فهو يأتى بفكر سلفى سليم آخذ بأحكام القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، يعالج به مشاكل الحياة الواقعة بالقسطاس المستقيم ، بل يلقى فى حقل الحياة العاملة الكادحة المتوثبة بالبذرة الصالحة التى استنبطها من الكتاب والسنة فتنبت الزرع، وتخرج الثمر ، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها .
وإنا وقد اتجهنا إلى دراسة ذلك العالم الكاتب الخطيب المجاهد الذى حمل السيف والسنان ، كما حمل القلم والبيان ، سنجتهد فى دراسة حياته ، ومجاوبتها لروح عصره، وتأثيرها فيه ؛ ثم ندرس آراءه كعالم من علماء الكلام وآراءه كفقيه ؛ واجتهاده والأصول التى تقيد بها؛ ومقدار الصلة التى تربطه بالفقه الحنبلى . وإنا نستعين باللّه ، ونسأله التوفيق ، فإنه لولا توفيقه ما تيسر لنا أمر ، ولا وصلنا إلى غاية ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
محمّد أبُوزَهِرة
4
تمهيد
١- بزغ ابن تيمية في الثلث الأخير من القرن السابع والثلث الأول من القرن الثامن.
ومن وقت أن ظهر عالماً بين العلماء، ومرجعاً يرجع إليه في الإفتاء، والناس مختلفون في شأنه بين قادح ومادح؛ ولا زال ذلك الاختلاف إلى يومنا هذا؛ فالناس فيه فريقان: فريق غالى في تقديره حتى رفعه إلى مرتبة فوق كبار أئمة الفقهاء. فتجاوز به أقدار الأئمة الأعلام، كأبي حنيفة ومالك والشافعي والليث، ومنهم من حسب أنه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد، وما اجتهد فيه فقد تجاوز فيه طوره؛ وتعدى فيه حده؛ بل من الناس من كفره حاسباً أنه خلع الربقة وانطلق من قيود السالفين، وعدا عدواً على الدين.
وإن المشاهد قديماً وحديثاً أن الرجل الذي يختلف الناس في شأنه بين إعلاء وإهواء، لابد أن يكون رجلاً كبيراً في ذات نفسه، عظيماً في خاصة أمره؛ له عبقرية استرعت الأنظار؛ واتجهت إليها الأبصار، فيكون له الوالي الموالي، والعدو المتربص المؤاخذ الذي يتتبع الهفوة؛ ويحصي السقطات.
وكذلك كان ابن تيمية رضي الله عنه، قد كان عظيماً في ذات نفسه، اجتمعت له صفات لم تجتمع في أحد من أهل عصره. فهو الذكي الألمعي؛ وهو الكاتب العبقري، وهو الخطيب المصقع؛ وهو الباحث المنقب؛ وهو العالم المطلع الذي درس أقوال السابقين، وقد أنضجها الزمان؛ وصقلتها التجارب، ومحصتها الاختبارات؛ فنفذت بصيرته إلى لبها، وتغلغل في أعماقها، وتعرف أسرارها؛ وخص الروايات، ووازن بين الآراء المختلفة، وطبقها على الزمان، مع إدراك للقوانين الجامعة، وربط للجزئيات، وجمع الأشتات المتفرقة، ووضعها في قرن واحد.
5
٢- ولقد أدته بحوثه ودراساته للثروة الفقهية والعقلية التي كانت بين يديه ميراثاً عن الأسلاف إلى أن يجعل من نفسه حاكماً على متخالفها؛ قاضياً في الآراء المختلفة في قضاياها، ولقد سار في الحكم عليها سير القاضي العادي تسيره المقدمات ولا يسيرها، وتوجهه البينات ولا يوجهها، وما كانت بيناته إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما كان منهاجه إلا منهاجهم في أقضيتهم وأحكامهم؛ فما يجده سائراً مع الكتاب والسنة وآثار الصحابة أيده ونادى به وما يجده مخالفاً لها جاهر ببطلانه أياً كان قائله، ومهما يكن ناصره؛ فتحركت بذلك الطوائف المعتنقة لهذه الآراء التي يهدمها - لمنازلته ومناهضته ورميه بالشطط ومجاوزة الحد.
٣- وإنه لم يقتصر على الفروع يقضي فيها، ويحكم على الآراء المختلفة بشأنها، بل تكلم في مسائل من علم الكلام، فتكلم في خلق القرآن؛ وتكلم في قدرة الإنسان وإرادته بجوار قدرة الله تعالى وإرادته؛ وهي المسائل التي أثارها الجهمية والقدرية في الماضي، وتكلم في المشتبهات من آيات الصفات؛ ووصف الله سبحانه وتعالى بالاستواء، وقد خص هذه المسائل بطريقته غير متقيد إلا بالكتاب والسنة ومناهج الصحابة وكبار التابعين، وبحكم العقل المستقيم، فلم يتقيد برأي من جاء بعدهم أياً كانت مكانته العلمية، ومنزلته التاريخية. تخالف في ذلك أبا الحسن الأشعري، ومكانته بين العلماء مكانته، وأتباعه كثيرون، بل هم الجمهرة العظمى من العلماء في عصره؛ ورمى الأشاعرة والماتريدية بأنهم في مسألة الإرادة جهمية، فعندئذ تصدى له الأتباع مجاهرين بعداوته، ورموه بالشطط والخروج والضلال، وكانت بينه وبينهم حرب عوان، نال منهم بالقول والبرهان، ونالوا منه بالزج في غيابات السجن، وتأليب ذوي السلطان.
٤- ولم يكتف بأن يثير عليه خصومه من الفقهاء والمتكلمين فقط، بل أثار صوت الحق الذي كان ينطق به طائفة أخرى أشد لجباً، وأقوى على العامة سلطاناً؛ تلك هي الصوفية جاهر بمخالفتها، وندد بطرائقها؛ وأعلنها عليهم حرباً
6
شعواء؛ ورماهم بالشعوذة، وإفساد النفوس؛ وأنكر عليهم ما ينشرونه بين أتباعهم من التوسل بالأولياء والصالحين، وعد ذلك من قبيل اتخاذ المخلوقين شفعاء للخالق ليقربوهم إليه زلفى، كما كان يقول المشركون فيما حكاه الله عنهم إذ قال: ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) شدد ابن تيمية النكير، وبالغ في التشديد، ولم يترك مجالا يمكنه أن يعلن فيه ترهات بعضهم إلا أعلنها، واشتد اللجب في الخصومة بينه وبينهم، والتقوا للمناظرة والمجادلة، وما كان يخفى أمراً من أمرهم، فما كان يخفى في نفسه شيئاً لا يبديه لهم؛ بل إنه ذهبت جرأته إلى أن يعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا يصح الاستغاثة بأحد من الخلق؛ ولا بمحمد سيد الخلق، وجأر بذلك في الجموع الحاشدة؛ ولم يفرق في إعلان آرائه بين العامة والخاصة، فهو يقول للعامة ما يقول للخاصة؛ لأنه يعتقد أنه دين، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلزمه إرشاد كل ضال في اعتقاده، سواء أكان من العامة أم من الخاصة، بل إن هداية العامة ألزم؛ لأن العالم مسئول عن إرشادهم؛ وإن ضلوا وهو يستطيع الإرشاد وإنارة السبيل فعليه وزر من وزرهم؛ فإنه كان يأخذ بقول علي رضي الله عنه: ((لا يسأل الجهلاء لمَ لمْ يتعلموا، حتى يسأل العلماء لِمَ لَمْ يُعَلِّمُوا)).
٥- واسترسل في إعلان آرائه استرسال العالم العريق الوثيق في حجته، وقد آتاه الله لساناً مبيناً، وقلباً حكيماً، وقلباً عليماً؛ ولم يكتف بما سبق، بل هاجم الشيعة هجوماً عنيفاً بقلبه وقلبه ولسانه؛ لأنه حسبهم مالئوا خصوم الإسلام من الصليبيين على المسلمين، وكشفوا عورات المؤمنين؛ وحسبهم مالئوا التتار على السكان الآمنين، ومكنوهم من رقابهم وبلادهم وأرضهم يعيثون فيها فساداً؛ جرد عليهم ذلك الفارس الذي حارب التتار بسيفه، قلباً غضباً ولساناً حاداً، وأخذ يرد أصولهم؛ ويدحض حججهم غير وأن ولا كسل؛ ودون الرسائل الكاشفة، وقد رأى في حال الشيعة الذين عاصروه من الباطنية والحاكمية وحال النصيرية، وطرائقهم السرية ما جعله هو وسائر المعاصرين يتظنون فيهم
7
الظنون، ويقبلون عنهم الأقاويل؛ فكان قوله فيهم يتفق مع ذلك كله، ذلك بأنهم كتموا أمورهم وأسروا في أنفسهم وجماعاتهم ما لا يبدونه، وبالغوا في الحرص والكتمان، وكانوا يدبرون التدابير لاغتيال الزعماء والكبراء من أهل الجماعة الإسلامية، وظهرت آثار ذلك منهم في القرن السادس والسابع وتسامع الناس به، ولم يعد أمره خفياً، وكانت المعركة قائمة مستعرة الأوار بين أهل الإسلام وحملة الصليب، فكان للظن ما يسوغه، ويسهل قبوله.
٦- خاصم ابن تيمية كل هؤلاء وليس الغريب أن يكون له من بينهم قادحون، يورثون قول السوء فيه لأخلافهم، بل الغريب أن يستمر في دعوته وتأليهم عليه من غير خوف، وليس الغريب في أن يقضي سنين في غيابات السجن، بل الغريب ألا يعتدوا عليه بأيديهم وسيوفهم.
وما السبب في أنهم لم يمدوا أيديهم بالأذى البدني إلا مرة واحدة أثار الصوفية فيها العامة في مصر، وهو يلقي درسه، فامتدت بعض الأيدي إلى جسمه بالأذى، وسرعان ما ارتدت كلية إلى صاحبها.
السبب في ذلك أنه كان رجلاً مخلصاً ابتدأ حياته محبوباً من الكافة، وكان من الواضح للعامة والكافة إخلاصه، فهو الفقيه العالم الذي يجاهد بسيفه في سبيل الله، ولم يقتصر على الجهاد بعلمه وقلبه ولسانه، بل جرد السيف لقتال التتار، وكان شجاعاً في ميدان القتال، كما كان شجاعاً في ميدان العلم والسياسة، ذهب على رأس وفد من دمشق يدعو قازان ملك التتار، إلى منع العبث والفساد، وخاطبه بقلب جريء؛ ولم يتردد في أن يصف أعمال ذلك الملك العسكري القاسي في جبروته بوصفها الحقيقي.
وكان مع العامة درعاً حصينة في كل بلاء ينزل بهم ينافح عنهم بلسانه وقلمه وسيفه، ويشاركهم في ضرائهم، فكانت القلوب تصغي إليه، والأفئدة تهوى نحوه، فسهل ذلك قبول قوله، وإن كانت فيه مجاهرة بمخالفة المألوف المعروف عند العلماء، فكانت أعماله شاهدة بسلامة دينه، وقوة يقينه؛
8
والأعمال تسترعي الأنفس أكثر مما تسترعي الأقوال، وفوق هذا كانت له شخصية رهيبة قوية، ونفس حلوة جذابة، وقلب رءوف خافق؛ وعقل جبار نافذ، وإرادة قوية حازمة، وكل أولئك يجعل له عند الناس مكانة، ويجعلهم يقبلون ما يقول، أو على الأقل إن يخالفوه لا ينابذوه؛ وإذا أضيف إلى ذلك لمعان حجته، وفصاحة بيانه، وقوة بلاغته، علمنا تحت أي تأثير كان المستمعون له؛ فوق أنه كان ينهل من العذب الصافي، والورد المورود إلى يوم القيامة، وهو كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يأخذ بألباب المستمعين إلى المحجة البيضاء؟ وكان كثيرون من الدهماء يصغون إليه؛ وكثيرون من الخاصة يقتنعون بحجته.
ولذلك وجدنا الذين يكيدون لذلك العالم الجليل من العلماء المعاصرين يكيدون له عند السلطان، ولم نجد ثورة من العامة إلا قليلا تحت تأثير عوامل اصطناعية لا طبيعية، وكان ذلك يحدث في مصر لا في الشام؛ إذ في الشام يعلمه العامة والخاصة؛ وفي مصر لم يكن معلوماً لكثيرين من العامة، فكان من السهل إثارتهم عليه.
٧- هذه لمحات لتلك الشخصية الرائعة التي نحاول وضع أيدينا على مفتاحها، وتعرف خواصها! واستكناه حقيقتها، وتقصي أخبارها؛ ونتتبعها، وصاحبها صغير إلى أن يبلغ أشده؛ ثم استوى رجلاً قوياً، وعالماً علياً.
وإن سيرته نيرة مبسوطة مذكورة، ذلك بأن تلاميذه الذين أخلصوا له في حياته وبعد وفاته، تقصوا حياته، وبسطوا الوقائع التي نزلت به، والتي اعترك فيها مع غيره؛ وبعض أولئك قصوها علينا قصصاً واقعياً موضوعياً، ولم يضفوا على الأخبار بمبالغات الخيال؛ ذلك لأنهم شاهدوا وعاينوا، فاكتفوا بتدوين شهادتهم وعيانهم.
وإن سرد الوقائع من غير توسيعها بالخيال، يسهل على الدارس دراسة الشخصية دراسة علمية، يرد النتائج إلى مقدماتها؛ والفروع إلى أصولها؛ والآثار إلى المؤثر فيها.
9
ولذلك لا نجد الصعوبة التي كنا نجدها عند دراسة الأئمة الأربعة، وتعرف أشخاصهم من سيرتهم التي دونها كتاب المناقب، فإنا كنا نجد مبالغة وإغراقاً في المدح بالمعقول وغير المعقول، فكان استخلاص الحقيقة من بين المدون المسطور صعباً عسيراً.
أما هنا فإنا نجد السيرة مدونة تدويناً صحيحاً خالياً في أكثر الأحوال من المبالغة؛ وإن بالغ بعض الكتاب، فإن تمييز الحق الصحيح من بين ثنايا المبالغة سهل بالموازنة بين الكتابات.
٨- ولكن إذا كان تعرف شخصيته الإنسانية من وقائع سيرته سهلاً يسيراً؛ فإن أمراً آخر يعترضنا في تعرف شخصيته العلمية، إذ أن تعرفها صعب عسير، بل أصعب من تعرف الشخصية العلمية للأئمة السابقين، كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك وغيرهما؛ لأن العلم في عهدهم كان يؤخذ بالتلقي؛ إذ أنه كان في الصدور؛ ولم يخرج إلى الكتب والسطور، فكان من السهل أن تعرف كيف تكونت شخصية الإمام العلمية؛ لأننا نتتبع الشيوخ الذين التقى بهم ومناهجهم؛ فمعرفة الشيوخ تسهل معرفة ما تلقاه التلميذ، ومن معرفته، ومعرفة ما أنتج هو نستطيع أن نعرف مقدار الأثر العلمي الذي تركه، ذلك بأن العالم الحق هو الذي يتغذى مما تركه من سبقه، ويقدم غذاء جديداً لمن يجيء بعده.
أما ابن تيمية فقد جاء في القرن السابع والمذاهب مدونة، والسنة مبسوطة، في كتبها، والعلوم المختلفة قد دونت في موسوعات ضخمة، فكل العلوم من فلسفية ودينية ولغوية وتاريخية قد دونت، فلم يعد من السهل معرفة الشيوخ الذين تلقى عليهم: لأنه لا يتلقى فقط من الأشخاص الأحياء، بل يتلقى من الذين سبقوه بأجيال، بالكتب التي أورثوها الناس، ورب كتاب يقرؤه الشادي في طلب العلم فاحصاً مستوعباً يوجهه أكثر من معلم يوقفه ويقرئه.
٩- وإن ابن تيمية بلا شك تلقى على شيوخ قرأ عليهم الحديث وعلوم اللغة وعلوم الدين من تفسير وفقه وعقائد، وغير ذلك من العلوم التي كانت معروفة
10
في عصره، وكانت بيئته تسمح له بأن يتلقى العلم عن رجاله؛ لأن أسرته كانت منصرفة للعلم، فأبوه وجده كانا من العلماء الفطاحل، ولجده كتب في أصول الفقه الحنبلي مبسوطة قيمة، وهو فقيه من فقهائه ذوي القدم الثابتة فيه.
بيد أنه لابد أن نفرض حتماً أن ابن تيمية لم يقتصر في دراسته على العلوم التي تلقاها من شيوخه الذين شافهوه، بل إن التكوين الأكبر لفكره وعقله يرجع إلى ما قرأ وخص، لأنه أتى بجديد لم يكن في شيوخه من يعرفه، ومن له قدم فيه، فتراه درس الفقه كله دراسة مقارنة واضحة، متعرفاً أسراره وغاياته؛ ونراه على إلمام بأصول المذاهب الإسلامية المعروفة بين الجماعة الإسلامية، ونراه دارساً فاحصاً، ثم نرى له تأملات فلسفية عميقة استخرج بها فلسفة الشريعة سائغة سهلة القبول.
وعلى ذلك لابد أن نفرض أنه قرأ كل الثمرات العقلية والفلسفية والدينية التي زخر بها عصره؛ فلابد أن نفرض أنه قرأ كتب الفلاسفة؛ والردود عليها؛ وكتب الغزالي؛ وابن رشد؛ وغيرهما. بل إنا نجد في بعض مناهجه في علم الكلام تلاقياً فكرياً بينه وبين الغزالي أحياناً، لا يمكن أن يكون من محض المصادفة؛ ولا بد أنه اطلع على الرسائل الفلسفية لإخوان الصفا التي حاول أصحابها منحرفين ومستقيمين أن يدرسوا الشريعة على ضوئها، وإنه من المجزوم به أن يكون قد اطلع على المحلى لابن حزم.
وهكذا فهو قد درس كل العلوم الإسلامية التي كانت مدونة، وتضافرت بذلك الأخبار، ثم أخرج مما درس عنصراً حياً قوياً أمد به جيله والأجيال التي جاءت بعده.
ولم يكتف بالدراسة الإسلامية، بل درس غيرها، ولعل أظهر ما يدل على ذلك كتابه القول الصحيح فيمن بدل دين المسيح فإنه يكشف عن كاتب ملم إلماماً بالديانة المسيحية في أصلها، وكما راجت في عصره.
١٠- ومن هنا نجد الصعوبة في دراسة شخصية ابن تيمية العلمية، فإننا
11
لا نستطيع أن نحصى الينابيع التي استقى منها، ولا أنواع الغذاء العقلي الذي تغذى بها عقله، فأنتج ما أنتج، ووصل إلى ما وصل إليه.
وسواء أعلنا على وجه اليقين ذلك أم لم نعلم، فمن المؤكد أن المجموعة العلمية التي سجلها التاريخ لابن تيمية في سجل الخلود هي فريدة في بابها، لم يكن في نهجه فيها تابعاً مقلداً أو حاكياً، بل كان مستقل الفكر الذي لم يحاك أحداً سبقه في كتابته، وإن كان لكل ماسبق من آثار علمية دخل في تكوينه الفكري والعلمي، فهو وإن كان قد تغذى من علم السابقين، قد أتى بأمر هو خلاصة ما انطبع في نفسه، واستقام في فكره، كالجسم يتغذى من كل غذاء، ثم يكون من ذلك مزيج فيه كل العناصر التي تغذى منها. ولكن له خواص تجعله ليس واحداً منها، وليس على شاكلة أي واحد منها، وكذلك كان ابن تيمية رضي الله عنه.
وسنحاول أن نبين ذلك ما استطعنا إليه سبيلا.
١١- هذه إحدى الصعوبات التي تعترضنا عند دراسة ذلك العالم الجليل، وهناك صعوبة أخرى، وهي عصره، فعصره امتاز بكثرة الأحداث، وتواليها وتعدد أنواعها، فدول الإسلام قد انحلت إلى دويلات صغيرة، كان بأسها بينها شديداً، كل واحدة تنتهز الفرصة للانقضاض على الأخرى، وصار الملك عضوضاً، ولم يعد له قرار ثابت، فتعددت الأسر المالكة، وتعدد المتنافسون عليه، وكل رامه، وكل ذي جند أراده، فتزلزل السلطان، واضطربت الأمور، وصارت الشعوب الإسلامية نهباً مقسوماً للمتنافسين من طلاب الملك والمتنازعين فيه.
حتى إذا أغار الصليبيون على عقر الإسلام، وراموه بسوء وجد من الملوك ذوي الغيرة في مصر والشام من صدوا جموعهم، ولم يطمئن المسلمون قليلاً حتى انتال عليهم التتار انتيالاً، وكأنهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون، وكانت الفرق التي تعمل في الباطن قد أخذت تدس للجماعة ما يزيدها انقساماً، وتجعل الخلاف أشد احتداماً. ولو تجاوزنا الآفاق واتجهنا إلى الأندلس جنة الإسلام
12
في الدنيا لوجدناها قد انقسمت إلى دول صغيرة، حتى صارت كل مدينة دولة قائمة بذاتها، والعدو يقتنصها واحدة بعد الأخرى، حتى انقض في آخر الأمر من بعد ذلك العصر على البقية الباقية، فألقاها في اليم من غير رحمة ولا شفقة، وهل ينتظر الرحمة من الأعداء، إلا من ينتظر من النيران الماء.
هذا إجمال للعصر الذي عاش فيه ذو القلب المؤمن المتوثب ابن تيمية، وإذا كان الإنسان ابن بيئته ونتاج عصره، وهو في ذلك كالبذرة الصالحة لا تنبت نباتاً طيباً إلا في جو يلائمها، وأرض تغذيها، فكذلك الرجل العبقري يبادل عصره، ويتغذى من حلوه ومره، ويتجه إلى إصلاحه من بعد، ولذلك كان لا بد من نظرة إلى ذلك العصر الذي عنى ذلك الفقيه العظيم بآلامه وأوصى به، ودراسته ليست سهلة لتشعب نواحيه، وتعدد مناحيه.
١٢- وإننا بعد دراسة حياته وعصره، لا نجد من السهل دراسة علمه، لأنه لم يكن متخصصاً كالأئمة السابقين، فأبو حنيفة كان فقيهاً، ولم يعرف إلا بأنه فقيه، وإن كانت له في صدر حياته جولة في علم الكلام، فقد أطرح الخلاف في علم الكلام إلى التخصص في الفقه واستنباط الأحكام، ومالك كان فقيهاً ومحدثاً ولم تكن قد تميزت التفرقة بين الفقه والحديث تميزاً كاملاً، والشافعي وإن كان الفصيح الأديب قد تخصص في الفقه وأصوله وهكذا... ولذلك كانت دراسة علومهم سهلة، لأنها ناحية واحدة، والنواحي الأخرى كانت آراء اعتنقوها بوصف كونهم علماء مسلمين، لا بوصف كونهم متخصصين، أما ابن تيمية فجولاته في الفقه جعلته فقيه عصره، وجولاته في علم الكلام جعلته أبرز شخصية فيه، وتفسيراته للقرآن الكريم، ودراسته أصول التفسير ووضعه المناهج لها، جعلته في صفوف المفسرين، وله في كل هذه العلوم آراء مبنية على خص ودراسة، ويعد أول من جهر بها، وإن كان يقول إنها مذهب السلف وليست بدعاً ابتدعه، ولا بديناً ابتكره، وإنما هي رجعة إلى حيث كان الإسلام في إبان مجده أيام كان غضاً لم تلق عليه السنون غبار التقاليد والنسيان.
13
ولابد من دراسة هذه النواحي العلمية كلها، وتعرف جولاته فيها، وما خالف فيه أهل عصره، ولا يصح أن يكتفي بناحية عن الأخرى، فلا يصح الاكتفاء بدراسة فقهه، وترك ما أثار من آراء في علم الكلام، فنكون قد أهملنا شطراً كبيراً من حياته، قد لاحى عن رأيه فيه، وبسببه لبث في السجن بضع سنين. ولا يصح أن نكتفي بدراسة مسائل علم الكلام، ونترك فقهه، وهو فقيه عصره الأكبر، وقد وصل بدراساته الفقهية إلى مرتبة الاجتهاد كما ذكر معاصروه، وخالف في كثير من المسائل الأئمة الأربعة، وقد مات في السجن بسبب مخالفته في مسائل في الطلاق وغيرها مما أفتى فيه.
١٣- وإذا اتجهنا إلى دراسته باعتباره فقيهاً من غير إهمال النواحي الأخرى، فإن تعيين مرتبته في الاجتهاد ليست أمراً هيناً ليناً، فإنه بدراسته الأولى كان حنبلياً، ولم يقطع صلته بالمذهب الحنفي قط، وكان يعتبره أمثل المذاهب، لأنه أكثرها اتباعاً للسلف الصالح، ولذلك فضل من البيان، سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ولقد كانت أسرته كلها حنبلية، ولقد أتم عملاً لأبيه وجده في فقه الحنابلة وأصوله، فقد ذكر العلماء في المذهب الحنبلي أن من كتب الأصول في مذهب أحمد مسودة بني تيمية، وهم الشيخ مجد الدين، وولده عبد الحليم، وحفيده شيخ الإسلام تقي الدين، والأخير هو موضع دراستنا.
فكان حنبلياً بنشأته وأسرته وثقافته الفقهية، وميله في دراسته، مع أن له اختيارات من غير مذهب أحمد، بل له اختيارات حلق بها في أفق الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، ووصل فيها إلى نتائج تخالف ما عليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة، كفتواه في الحلف بالطلاق، وعدم إيقاع الطلاق بها. وكفتواه بأن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث أو في مجلس واحد يقع طلقة واحدة فإنه في هذه المسائل وأشباهها، اجتاز دائرة الاختيار من المذاهب الأربعة إلى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، غير ملتفت إلى ما وراء ذلك.
14
وإذا كانت هذه حاله، ففي أى مرتبة من الاجتهاد يكون وضعه، أهو مجتهد مطلق كالأئمة الأربعة، أو أصحاب أبى حنيفة، كأبى يوسف، ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل، فإن هؤلاء الصحاب مجتهدون مطلقون (كما هو رأينا) أم هو مجتهد منتسب تقيد بالأصول الحنبلية، وسار على نهجها، وإن كان قد وصل إلى نتائج في الفروع تخالف الحنابلة، بل تخالف كل فقهاء المذاهب الأربعة.
إن هذه مسألة تقتضي تتبع الفروع التي خالف فيها أحمد وغيره، والأصول التي بنى عليها أحكام تلك الفروع فيما انتهى إليه، وخص هذه الأصول على ضوء الأصول الحنبلية، فإن كانت داخلة في عمومها غير بعيدة عن منهاجها، قررنا أنه مجتهد منتسب؛ لأنه مقيد بأصول المذهب الحنبلي فهو منتسب إليه، واجتهاده كان في الفروع لا في الأصول، وإن كانت الأصول التي بنى عليها مخالفة في بعض الأحكام أنواعاً جديدة ليست داخلة في عموم أصول أحمد، فإنه مجتهد مطلق خلع قيد التقليد، والانتساب إلى الحنبلية معاً.
وإن هذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد دراسة آرائه الفقهية دراسة عميقة، فإننا نجد فيها الهادي المرشد إلى تعرف قيمة فقهه عامة، ومدى اجتهاده في المسائل التي خالف فيها خاصة.
١٤- وإن السبيل المعبد للكشف عن قيمة ما وصل إليه هو دراسة كتبه ورسائله، وهي فياضة بثمرات عقله، بل إنك تستمع فيها إلى خفقات قلبه، وتلمس منها مشاعر نفسه.
وإنه لكي يتجلى عمله بالنسبة لغيره، لا بد أن ندرس آراء غيره فيما خالف فيه، لأنه بالموازنة بين الدليلين نعرف أهدى الرأيين، والصواب منهما، وإنه لكي يتجلى ذلك تمام التجلي لابد أن نتكلم كلمة عن الفرق التي هاجمها، فقد وجدناه هاجم الشيعة، واختص بالمهاجمة الباطنية والحاكمية والنصيرية الذين كانوا في عصره، فلا بد من إلمامة موجزة ببعض أخبار الشيعة ومناهجهم، ووجدناه قد هاجم الجهمية، وهاجم الأشاعرة في مسألة الجبر والاختيار، فكان لا بد من
15
معرفة ما رآه الجهمية في هذه المسألة، وما رآه الأشاعرة والفرق بينهما، ثم ما رآه هو، والفرق بينه وبين ما رآه المعتزلة، فإن ذلك يكون توضيحاً لأساس الخلاف ومناحيه، وفوق ذلك يكون توضيحاً لعقلية ابن تيمية، ولقد تكلم في خلق القرآن، ووضح الأقوال فيه، فلابد أن نمس أدوار هذه المسألة وهكذا... وترى أيها الباحث أن الرحلة في هذا شاقة، وقد بعدت الشقة في نواحيها، ولا معين إلا الله سبحانه وتعالى على بيانها.
ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى مواقفه في الدفاع عن الإسلام عند وجود مهاجمة لمبادئه من بعض النصارى في قبرص، فتصدى للذود عنهم، والترصد لهم بقلمه، كما ترصد التتار بسيفه.
وإنا نضرع إلى الله جلت قدرته أن يمدنا بعونه وتوفيقه وهدايته إنه على ما يشاء قدير.
16
القسم الأول
حياة ابن تيمية
٦٦١- ٧٢٨
ولادته وأسرته
١٥- هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، وتعرف هذه الأسرة بأسرة ابن تيمية(١) ولد في العاشر(٢) من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من بعد الهجرة النبوية، وكان مولده بمدينة حران مهد الفلسفة والفلاسفة، والصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام، وقد نشأ النشأة الأولى فيها إلى أن بلغ السابعة من عمره، فأغار عليها التتار، ففر أهلوها منها، وكان من هاجر أسرة ابن تيمية، هاجرت إلى دمشق، ولم يكن الطريق خالياً من الأعداء، بل لم يكن آمناً، ولم يكن معبداً، ولقد لاقوا مشقة في السفر، فقد سافروا ليلاً هاربين، وهي أسرة على، أثمن متاعها الكتب، فهي للعلماء متاع وثروة وغذاء
(١) اختلف العلماء في علة تسمية الأسرة بابن تيمية، فقيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى هناك طفلة اسمها تيمية، ثم رجع فوجد امرأته ولدت بنتا فسماها تيمية. وقيل إن جده محمدا كانت أمه واعظة وكان اسمها تيمية، فنسبت الأسرة إليها وعرفت بها.
(٢) أكثر الروايات على أنه ولد في العاشر، وقليل من المؤرخين من يذكر بجوار هذه الرواية أنه ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، ولعلهم يريدون أن يقولوا إنه ولد في اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيحيي شريعته.
17
وحلية نفيسة، وحملها في الانتقال والرحلة شاق عسير. وخصوصاً إذا كان الانتقال فراراً، وقد نقلوها على مركبة لعدم توافر الدواب التي تحملها، ولأنها يشق حملها على الدواب، وقد كاد العدو يلحقهم لتوقف العجلات عن السير، فاستعانوا بالله ونجوا من القوم الظالمين.
١٦- وصلوا إلى دمشق بعون الله، واستقروا فيها آمنين، وكل ذلك وذو النفس المرهفة الحس يرى ويسمع ويدرك، وهو الغلام أحمد تقي الدين، فقد رأى الهول الأكبر في غارات التتار المفسدة، ورأى الفزع الأكبر في السكان الآمنين، يهرعون إلى النجاة، وما يكادون ينجون، ثم رأى أسرته تعاني مشقة الطريق، ومشقة حملها الثمين، وتخاف الضيعة، رأى كل ذلك الغلام الذكي المحس، فانطبع في نفسه صغيراً كره التتار، وكره الاعتداء، ومن هذا الابتداء نعرف بعض السر فيما كان منه، وقد استوى رجلاً مكتمل القوى، فقد كان يقود الجحافل لقتالهم مع أنهم أعلنوا الإسلام واعتنقوه، وصار شأنهم كشأن غيرهم من طوائف الإسلام، ولكنه رأى من ماضيهم البغي والعيث في الأرض فساداً، فعلم أنهم إن كانوا مسلمين هم بغاة يجب قتالهم حتى يتوبوا أو يُقْدَر عليهم، فقاتلهم لهذا ولتخرج من تحت سلطانهم الشعوب التي يهضمونها حقوقها، ويعيثون فساداً في أرضها.
١٧- لم يذكر المؤرخون الذين قرأت لهم القبيل الذي تنتمي إليه أسرة ابن تيمية. فلم يذكروا له نسبة إلا أنه الحراني فنسبوه إلى بلده حران موطن أسرته الأول، ولم ينسبوه إلى قبيلة من قبائل العرب، وإن هذا يشير إلى أنه لم يكن عربياً، أو لم يعرف أنه عربي منسوب إلى قبيلة من القبائل العربية، ولذلك نستطيع أن نفهم أو أن نعلم علماً ظنياً أنه لم يكن عربياً، ولعله كان كردياً، وهم قوم ذوو همة ونجدة وبأس شديد، وفي أخلاقهم قوة وحدة، وإن تلك الصفات كانت واضحة جلية فيه مع أنه نشأ في دعة العلماء، واطمئنان المفكرين وهدوء المحققين، وإن الأكراد كانت لهم في القرن السادس والسابع المواقف الرائعة
18
في الدفاع عن الإسلام والمسلمين فوقفوا في صدر الجبهة الأولى للإسلام ضد الصليبيين، وتلقوا الصدمة الأولى، ثم الصدمات التي تليها حتى أَيِسَ الصليبيين من التحكم في الإسلام، أو على الأقل فلوا من حدتهم، وخضدوا من شوكتهم، حتى أعادوهم هم والمصريون من بعد ذلك إلى بلادهم محطومين.
ولم يذكر المؤرخون شيئاً عن أمه، ولا قبيلها، وهي في الغالب ليست عربية، ولقد عاشت إلى أن اكتمل مجد ابنها، وعاونته في جهاده، وعندما كان بمصر معتقلاً، كان يكتب إليها رسائل تفيض براً وعطفاً وإخلاصاً وإيماناً.
١٨- انتقلت أسرته إلى دمشق واستقر بها المثوى، والعالم الجليل حيثما حل وجد مكانه من الهدى والإرشاد، وكذلك كان الشيخ شهاب الدين والد تقي الدين موضع بحثنا، فإنه بمجرد أن وصل إلى دمشق، ذاع فضله واشتهر أمره، فكان له كرسي للدراسة والتعليم، والوعظ والإرشاد بجامع دمشق الأعظم، وتولى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان سكنه، وفيها تربى ولده تقي الدين(١).
ومما لوحظ على درس ذلك العالم الجليل أنه كان يلقي دروسه غير مستعين بقرطاس مكتوب أو كتاب يتلو منه، أو مذكرات ليستعين بها، بل كان يلقي الساعات من ذاكرته الواعية، وعقله المستذكر، وهذا يدل على قوة الحافظة؛ والقدرة على البيان، وثبات الجنان، وهي الصفات التي برزت في ابنه، وكانت من أخص صفاته التي كان يقرع بها الحجة، ويشده لها المجاوب، ويتحير لها المناظرون الأقران.
نشأ الغلام فوجد أباه على هذا القدر من العلم والتقدير، فكان ذلك موجهاً له إلى العلم، وفي الواقع أن الأسرة كلها قد توارثت العلم والنزوع إليه، فقد كان جده مجد الدين عالماً جليلاً يعد من أئمة الفقه الحنبلي المخرجين فيه، وله كتابات
(١) توفي والد ابن تيمية سنة ٦٨٢ بدمشق. راجع ابن كثير جـ ١٣ ص ٣٠٢.
19