ابن السلطان: وقصص أخرى
ابن السلطان: وقصص أخرى
اصناف
وانقطع مواؤه بعد قليل، وخرج منه صوت آخر ممدود بطيء كالنوم فسألت: أمي، هو بيعمل كده ليه؟
فقالت: ده بيسبح! - وقالت الخادمة: القطط بتشوف الملايكة بالليل! - فهتفت: صحيح يا أبي؟
وكان أبي يتدفأ على نار الفرن فقال: القطط من الشيطان.
ولم يعجبني قوله؛ لقد كان منذ البداية غير راض عنه. وكان يتجنبه ويسخط عليه وينفر منه وكأن بينهما ثأرا قديما.
وأصبح القط موضع اهتمامنا. كنا نلتف حوله في ليالي الشتاء كأنه مركز الكون. صحيح أن أبي كان يكرهه منذ البداية، ولا يكاد يقترب منه أو يتمسح في قدميه حتى يقبض عليه ويقذفه بعيدا وهو يصيح: «ارموه في الخرابة، ده كله براغيث.» غير أنني كنت أضعه في حجري دائما وأضمه إلى صدري، وأفرح وأنا أراقب عينيه المذعورتين حين ينظر إلى الأرض من فوق كتفي وكأنه يقف فوق قمة جبل، حتى أمي التي كانت تقول لي في كل مرة تراه معي: «يا ابني هوه أنت مالكش شغلة ولا مشغلة إلا القط.» كانت كثيرا ما تطعمه بنفسها، وتتحسس ظهره بيديها، وترصد نموه يوما بعد يوم، وتحلم بمستقبله: «بكره ده اللي ينضف البيت من الفيران.»
أبدا لم يحظ قط بمثل الرعاية التي حظي بها مسرور - كان هذا هو الاسم الذي اخترناه له - كنت لا أدخل من الباب حتى أسأل عليه، وإذا عدت بالليل وجدته ينتظرني، فلا أكاد أفتح باب حجرتي حتى يموء، ويلف حولي، ويتمسح في قدمي ويتثاءب. ثم يسبقني إلى السرير، ويدخل من نفسه تحت اللحاف، ويظل يراقبني بعينيه الواسعتين حتى أخلع هدومي وآخذه في حضني وأنام.
إن المخلوقات الجميلة لا تنسى أبدا أنها جميلة، فالجمال هو وجودها. إنها تحيا عليه، ومن أجله. وكان مسرور كلما كبر ازداد جماله، وتكور ذيله، وربى فروة ناعمة. فإذا رآني أقف أمام المرآة يتسلل إلى جانبي. ويطيل النظر في خياله، ثم يرفع عينيه الخضراوين إلي وكأنه يقول: «ناو، ناو، شف من أجمل مني؟» الواقع أنه كان على حق في كبريائه. ألم يكن يتيه بنفسه على القطط الضالة التي تدخل بيتنا بحثا عن الطعام، فإذا رآها نظر إليها باستكبار وتطلعت إليه بانكسار، وكأنها من طينة غير طينته؟ لقد كان يختال في مشيته كأنه شبل مغرور.
وعدت يوما فلم أجد «مسرور». بحثت عنه في غرفتي، تحت السرير، فوق الدولاب، في الفرن، وعلى السطوح فلم أعثر له على أثر. ورأيت أمي تضع يدها على خدها. قالت: «أبوك رماه في الخرابة.» كنا بالليل، والدنيا كحل، وصرخت والدموع تخنقني: «القط لازم يبات هنا.» فقالت: «يا ابني الصباح رباح.» ولكنني لم أنتظر. أيقظت الخادمة من نومها، وأشعلت المصباح نمرة خمسة ونزلت والخادمة تتمطى وتتثاءب من خلفي، وأمي تلعن القطط وسيرتها وتنادي من على رأس السلم: «طيب خد عليك حاجة من البرد.» ونزلت أجوس في الخرابة، وأفتش بين أكوام القمامة والتراب المتراكم حتى سمعت مسرورا يموء، ورأيت شبحه الصغير يجري نحوي، فلما اقترب مني تمطى وقوس ظهره، ونفض التراب عن جسده. وانحنيت عليه وحملته بين يدي، كأنه كنزي.
قد يكون هذا هو السبب الخفي الذي جعلنا نحوطه بمزيد من الرعاية والحنان. أصبحنا كلما اجتمعنا حول الطعام نسأل: «فين مسرور؟» وإذا كان اليوم يوم السوق والحالة مفترجة هتفت بأعلى صوتي: «حوشوا كوم مسرور.» أما إذا تصادف وكانت الأكلة أكلة سمك فيا بختك يا مسرور، إننا نجمع العظام والرءوس كلها له، وقد أمد له يدي خلسة من تحت الطبلية بسمكة بحالها.
غير أن السمك الذي كان مصدر فرحه كان أيضا سبب غمه. اجتمعنا ذات ليلة على العشاء، وأبي كعادته يحكي لنا عن أيام زمان، التي كانت كلها خيرا ونغنغة، وكانت العائلة تتغدى وتتعشى بقرشين صاغ. وفتحت أمي غرفة الفرن لتأتي لنا بالعشاء، وسمعناها تخبط على صدرها وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم! راحت فين يا أولاد؟
نامعلوم صفحہ