وإن كان التعلق تعلق المتأخر في الوجود، فإن البدن يكون علة للنفس في الوجود حينئذ، والعلل أربع كما هو معلوم، فمن المحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس، معطية لها الوجود؛ وذلك لأن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا، وإنما يفعل بقواه، ومن المحال أن يكون البدن علة مادية، فقد قلنا: إن النفس جوهر مطبوع في البدن كصورة الصنم المطبوعة في النحاس، ومحال أن يكون البدن مطبوعا في النفس بتركيب تدخل النفس فيه، فيكون البدن علة صورية للنفس، ومحال أن يكون البدن علة كمالية للنفس، والأولى أن يكون الأمر بالعكس؛ ولذا ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية، وإنما يمكن أن يكون البدن علة بالعرض، ومتى حدث البدن والمزاج صلحا أن يكونا آلة النفس وملكا لها.
وأما القسم الثالث من التعلق، فهو تعلق المتقدم، فيكون التقدم للنفس على البدن، وتكون النفس علة البدن في الوجود، فإن كان هذا التقدم في الزمان، فإن من المحال أن تتعلق النفس بوجود البدن وقد تقدمته في الزمان، وإن كان هذا التقدم في الذات ، فإن هذا يعني أن الذات المتقدمة تصدر عن الذات المتأخرة لزوما، ولكن عدم المتأخر يوجب افتراض عدم المتقدم حينئذ، مع أن المتأخر لا يمكن أن يكون معدوما إلا إذا عرض للمتقدم ما أعدمه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون السبب المعدم قد عرض في جوهر النفس، فيفسد معه البدن، وألا يكون البدن قد فسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير المزاج أو التركيب، فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات؛ ومن ثم يستنتج عدم وجود تعلق ذاتي في النفس بالبدن، وإنما يوجد تعلق عرضي يأتي من مبادئ عالية، وبما أنه لا يوجد غير تعلق عرضي، فإن النفس لا تفسد بموت البدن.
ثم بما أن النفس جوهر بسيط، فإنها لا تستطيع أن تجمع في نفسها فعل الوجود وقوة الفساد؛ وذلك لما يرى ابن سينا من تضاد هذين الشرطين، وعدم إمكان التوفيق بينهما ببساطة الجوهر، ولا يمكن وجود قوة الفساد في غير الأشياء المركبة أو الأشياء البسيطة التي تبقى في المركبة.
وجميع هذه البراهين في خلود النفس خاصة بما بعد الطبيعة قطعا، ولا يلوح أن ابن سينا عني كثيرا بالأدلة الخلقية أو الصوفية، ولا يعني هذا أنها كانت مجهولة في ذلك الحين، ولا ريب في وجودها لدى علماء الكلام، وقد قدم إخوان الصفا، الذين تجد لمنهاجهم مسحة خلقية أكثر مما تجد في منهاج الفلاسفة، برهانا شعبيا ظريفا نفعا للخلود،
31
فقالوا: إنه يرى أن جميع الناس يبكون موتاهم، وليست الأبدان هي التي يبكون ما دامت الأبدان تحت أعينهم، وما داموا يدفنونها عادة بدلا من تحنيطها، وإنما نشأ بكاؤهم عن أمر آخر، فر بعيدا من الجثث.
وفي مذهب ابن سينا أن النفس الإنسانية لا توجد قبل البدن، فكل نفس تخلق عند حدوث البدن،
32
وهي تكتسب تكييفا خاصا بالنسبة إلى البدن، ومن المستحيل أن توجد الأنفس قبل أبدانها؛ وذلك لأنها لا يمكن أن تكون في ذلك متكثرة ولا واحدة، وهي لا يمكن أن تكون متكثرة؛ لأنه لا يمكن أن تتغاير، وعلى العموم لا يمكن أن تصير الأشياء المجردة الصرفة متكثرة إلا بأشياء أخرى عينية تحتملها، وأما في حد ذاتها فإنها لا تتغاير ولا يمكن أن تعين، ثم إن النفوس ليست آحادا متحدة قبل دخولها في الأبدان؛ وذلك لأن النفوس التي هي في الأبدان إما أن تكون أجزاء لهذه النفس الوحيدة، ولكن مع كونها شيئا واحدا بلا عظم ولا حجم، غير قابلة للانقسام بالقوة، وإما أن تكون هذه النفوس آحادا في الأبدان أيضا، وهذا باطل بيقين شعوري.
وتحدث النفوس وتكثر - إذن - عند ولادة الأبدان، وهي تعاني إعدادا يناسب به كل واحدة منها الجسم الذي يجب أن تسيطر عليه، ويظهر أن الوجه الذي يتم به هذا الإعداد قد بقي خفيا بعض الخفاء على عين ابن سينا.
نامعلوم صفحہ