4
وهذا الحادث الأخير صغير إذا ما قيس بالخروج أو سبي بابل، وله فائدة الدلالة على اتخاذ أساليب الدفاع التورائية في القرآن. وفضلا عن ذلك، فإن النبي قد اختار لإثبات وجود الإله خير ما في الطبيعة وأشد ما في التاريخ هولا.
وأما الإثبات بالمعجزة، فقد ادعى محمد أنه يأتي به، ومع ذلك فقد طلب منه ذلك، بيد أن من المعلوم أنه - وهو خال من موهبة الخوارق - حاول أن يجعل القرآن في نظر الناس معجزة. ومن الطريف أن يلاحظ أنه كان يشعر بالأحوال التي لا بد منها لجعل الإثبات بالمعجزة مؤثرا، وذلك بمطالبته من يشاهدونها باستعداد قلبي:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (6: 109-110).
وفي القرآن يظهر أن علم الله شرط لقدرته وأحد وجوهها تقريبا، ولا مراء في أن القرآن لا يشتمل على نظرية للعلم لدى الإنسان ولا عند الله، وإنما وكد علم الله في القرآن، ونص فيه على أنه مطلق كقدرته:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (6: 59). ويساور أتقياء المسلمين - دائما - رأي قائل بأنه لا ينبغي للإنسان أن يحاول الخوض كثيرا في أسرار الله، وهم - كمؤلف «التقليد» - يكادون يعدون الفضول العلمي تدنيسا للقدسيات.
وليست ذات الله وحياته موضعا لبحث منظم أكثر من صفاته لدى محمد؛ فهو لم يقل عنهما غير ما هو عياني، وإنما يؤكد بجلاء روحانية الله التي يبصرها في صلته بوحدانيته وقدرته وعلمه وجلاله. وعنده أن الله لا يمكن أن يدرك، وهو يدرك كل شيء، وأنه ليس ذا عاهة بدن، وأنه يعلو الإنسان وكل شيء بطبيعته، وأنه من العلو فوق العالم ما يتعذر معه حتى النظر إليه، وليس هنالك غير مثال موسع لعاهل شرقي، غير صورة معظمة لملكة سبأ، التي تستقبل من وراء حجاب مليك الجزر القاصية، الذي تنحني الرقاب في طريقه، وتغلق النوافذ.
وترتبط في مبدأ جلال الله مسألة كانت موضع جدل في علم الكلام الإسلامي، كما اشتهر أمرها في السكلاسية النصرانية، وهي رؤية الله في الحياة الآخرة. ومما يجدر ذكره ما يظهر في القرآن من صعوبة كبيرة في نيل هذه الرؤية، وهي قد وقع تقديرها في السور التي تشتمل على أقاصيص تورائية، ومن ذلك أن الله نادى آدم من غير أن يظهر نفسه، وأن نوحا - الذي نجا من الطوفان وحده - لم ير الله، وأن إبراهيم - الذي يدعى خليل الله - لم يستقبل غير ملائكته، وأن موسى طلب أن يرى الله، فلم يكد يلمحه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق تاب إليه، وأن خاتم الأنبياء محمدا لم ير غير روح القدس؛ الملك العظيم جبرائيل.
وفي وصف القرآن للجنة أن الأخيار يتمتعون برؤية المنازل الجميلة والرياض ومختلف النفوس من ذكور وإناث، ولكن من غير قول بأنهم يتمتعون برؤية الله. وفي يوم الفصل يؤتى بالناس أمام الله، من غير أن يعلم من النص كيف يكون هذا المثول، وكيف يدرك.
وفي القرآن آيات على شيء من الغرابة، قال محمد فيها إن الله «نور»، وإن نور الأخيار يمشي عن يمينهم يوم الحساب:
نامعلوم صفحہ