وكان الفارابي موسيقيا بارعا، وكان يثير ببراعته فيها إعجاب سيف الدولة، فحفظت الآداب لنا ذكرى ذلك.
وفضل الفارابي طريقة الإيجاز في عباراته، ويروى أنه قليل العناية في جمع ما بينها، واليوم ترى هذه الأحوال غير ملائمة لفهمها، ومن ذلك أن هذه الرسالة أو تلك التي نشرها ديتريسي
12
ليست سوى مجموعة من الشرح الوجيز الخالي من الترتيب والارتباط، والذي يزيد غموضه بما أدخله إليه من الاصطلاحات الصوفية. ومع ذلك فإننا سنحاول أن نستخرج من كتب الفارابي المنشورة بعض العبارات البارزة، التي يمكن أن تعطي فكرة صريحة عن هذا الوجه العالي القوي.
وكان الفارابي عالما كبيرا بالمنطق،
13
فلقب بالمعلم الثاني، والمعلم الأول هو أرسطو، وفي رسالة عنوانها «رسالة للمعلم الثاني في الجواب عن مسائل سئل عنها»، فصل في بعض المشكلات التي كانت تشغل بال علماء المنطق في ذلك الزمن، وإليك ما قرره حول المقولات: (19 من الرسالة) ليس كل الأجناس العشرة بسيطة عند قياس بعضها ببعض، وإنما هي بسيطة عند قياسها إلى ما دونها، فأما البسيطة المحضة من هذه العشرة فهي أربعة: الجوهر، والكم، والكيف، والوضع. فأما ما يفعل وينفعل فهما مما يحدثان بين الجوهر والكيف، ومتى وأين يحدثان بين الجوهر والكم، وله يحدث بين الجوهر والجوهر المطبق به بكله أو ببعضه، والمضاف يحدث بين كل مقولتين من العشرة. (13) سئل عن العرض كيف يحمل على الأجناس العالية بالتقدم والتأخر، فقال: إن الكم والكيف هما بذواتهما عرضان، لا يحتاجان في إثبات ماهيتهما إلا إلى الجوهر الحامل لهما فقط. وأما المضاف - مثلا - فلأن إثبات أنيته إنما يكون بين جوهر وجوهر، أو بين جوهر وعرض، أو بين عرض وعرض، فحاجته في إثبات ذاته إلى أشياء أكثر من جوهر أو شيء واحد. (18) وسئل عن مقوله «يفعل وينفعل»، قال السائل: إذا لم يمكن أن يوجد أحدهما إلا مع الآخر - مثلا - إنه لا يمكننا أن نتصور يفعل إلا مع ينفعل، وأيضا لا نتصور ينفعل إلا مع يفعل، فهل هما من باب المضاف أو لا؟ فقال: لا؛ لأنه ليس كل شيء يوجد إلا مع شيء آخر، فهما من باب المضاف؛ لأنا لا نجد التنفس إلا مع الرئة، ولا النهار إلا مع طلوع الشمس، ولا العرض بالجملة إلا مع الجوهر، ولا الجوهر إلا مع العرض، ولا الكلام إلا مع اللسان، وليس شيء من ذلك من باب المضاف، لكنه داخل في باب اللزوم، واللزوم منه ما يكون عرضيا ومنه ما يكون ذاتيا؛ فالذاتي مثل وجود النهار مع طلوع الشمس، والعرضي مثل مجيء عمرو عند ذهاب زيد، ومنه أيضا ما هو تام اللزوم، ومنه ما هو ناقص اللزوم، والتام هو أن يوجد الشيء بوجود شيء آخر، وذلك الشيء الآخر يوجد أيضا بوجود الشيء الأول، والناقص هو عندما تكون هذه التبعية وحيدة الجانب. وهذا تحليل دقيق لفكرة الصلة. (24) وسئل عن المساوي وغير المساوي: هل هي خاصة الكم؟ والشبيه وغير الشبيه: هل هي خاصة الكيفية؟ فقال: إنما تكون الخاصة شيئا واحدا، كالضحك والصهل والجلوس وغيرها، إلا أنا إذا سمينا الرسم، وهو قول يعبر عن الشيء بما يقوم ذاته خاصة، فإن كل واحد من المساوي وغير المساوي هو خاصة للكم، وكذلك كل واحد من الشبيه وغير الشبيه خاصة للكيف. وجملة قولنا مساو وغير مساو هو رسم للكم، وجملة قولنا شبيه وغير شبيه هو رسم للكيف.
وكذلك نظرية المتضادات أدت إلى ملاحظات نفاذة. (18)، (17) وسئل عن المتضادات، وهل البياض عدم السواد أو لا؟ فقال: ليس البياض بعدم للسواد، وبالجملة ليس شيء من المتضادات هو عدم للضد الآخر، لكن في كل واحد من المتضادات عدم الضد الآخر. (37) سئل عن معنى قولهم: العلم بالأضداد واحد، هل تصح هذه القضية أو لا؟ فقال: هذه مسألة جدلية، فمن نظر في هذه المسألة ينظر في ذوات الضدين، فليس العلم بها واحدا؛ وذلك أن العلم بالسواد غير العلم بالبياض، والعلم بالعادل غير العلم بالجائر. وأما من نظر في الضد من حيث هو ضد ضده، فإنه حينئذ يصير نظره في بعض المضافات؛ إذ الضد من حيث هو ضد ضده هو من باب المضاف، والعلم بالمضافات واحد. (38) والمتقابلان هما الشيئان اللذان لا يمكن أن يوجدا في موضوع واحد من جهة واحدة في وقت واحد ، والمتقابلات أربع: المضافان مثل الأب والابن، والمتضادان مثل الزوج والفرد، والعدم والملكة، والموجبة والسالبة.
والجواب الآتي جدير بالذكر لشكله الرياضي؛ وذلك أنه يسأل عن عدد الأشياء الضرورية لمعرفة غير معلوم، فاثنان ضروريان - وهما كافيان - فإذا ما وجد أكثر من اثنين، فإنه يرى بالبحث الدقيق أن ما زاد على الاثنين ليس ضروريا لمعرفة الشيء المطلوب، أو أن ما زاد يرد إلى المعلومات التي كانت قد قدمت.
وإليك أيضا سؤالا طريفا، ما برح يكون معضلا، فعالجه الفارابي بكلمتين مع ذوق سليم بين. سئل عن هذه القضية، وهي قولنا الإنسان موجود، هل هي ذات محمول أو لا؟ فقال: هذه مسألة اختلف القدماء والمتأخرون فيها، فقال بعضهم: إنها غير ذات محمول، وبعضهم قالوا: إنها ذات محمول، وعندي أن كلا القولين صحيحان بجهة وجهة؛ وذلك أن هذه القضية وأمثالها إذا نظر فيها الناظر الطبيعي الذي هو نظره في الأمور، فإنها غير ذات محمول؛ لأن وجود الشيء ليس هو غير الشيء، والمحمول ينبغي أن يكون معنى الحكم بوجوده أو نفعه عن الشيء، فمن هذه الجهة ليست هي قضية ذات محمول، وأما إذا نظر إليها الناظر المنطقي، فإنها مركبة من كلمتين، وإنها قابلة للصدق والكذب.
نامعلوم صفحہ