ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أننا لا نتناول التصوف، عادين إياه منهاجا مستقلا بنفسه، وما نقوله في هذا الفصل الأخير لا يعدو كونه متما لما بعد الطبيعة. ومن المفيد أن يرى كيف أن مفهوم ما بعد الطبيعة عن الله يتم في التصوف من بعض الوجوه، وكيف أن ابن سينا يتمثل صلة الله بالإنسان في كبريات المسائل عن العناية الربانية والقدر. وسوف نسمع في هذا الموضوع أن فيلسوفنا يعرض نظرية عامة عن التفاؤل عالية جدا، وسنرى أيضا ما مكان الأخلاق في منهاجه، ما هذا المكان الذي تناولناه قليلا في الفصول السابقة فيكاد يفلت من قرائنا، والذي تركت جميع التفصيلات السابقة فراغا فيه يجب ملؤه.
وإليك كيف يعرف ابن سينا العناية الربانية في الإشارات:
1 «العناية هي إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عنه وعن إحاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم، على أحسن النظام، من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق، فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل.»
ولن نلاحظ في هذا التعريف العميق ملاحظة خاصة نوع ما أقيم من توحيد بين علم الله وإرادته وقدرته ولطفه، ما دمنا قد وقفنا عند حد وجهة النظر هذه في فصل الإلهيات، وإنما الآن - ونحن نعد هذه الأسطر معبرة عن نظرية التفاؤل، نتخذ هذا ذريعة لسؤال ابن سينا قائلين: بما أن نظام الأمور يظهر له أحسن ما يكون فكيف يدرك دور الشر، وما الرأي الذي يجعل لنفسه عن القدر؟
فبما أن الله خير محض، والكل يصدر عن الله، فإن من المصاعب الكبيرة أن يتصور مصدر صدور الشر الذي يظهر في الجميع. وتدور نظرية مؤلفنا العامة على كون الشر ليس في القضاء الإلهي بالذات، وأنه لا يدخل فيه إلا عرضا، ويوجد للشر ثلاثة أنواع: النقص أو العدم والألم والإثم، والشر بالذات هو الشر بالعدم؛ ولذا فهو سلبي، وإليك ما يقوله عنه ابن سينا:
2 «الشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، والشر بالعرض هو العدم أو الحابس للكمال عن مستحقه، والشر يفترض القوة، ومن ثم كانت النظرية الآتية، التي هي أرسطوطاليسية جوهرا، وهي: «كل شيء وجوده على كماله الأقصى، وليس فيه ما بالقوة فلا يلحقه شر، وإنما يلحق الشر ما في طباعه ما بالقوة، وذلك لأجل المادة.» أو إن الشر يحدث في المادة استعدادا مضادا لأحد الكمالات التي يجب وجودها في الشيء كوقوع سحب كثيرة وتراكمها، وأظلال جبال شاهقة تمنع الثمار من النضج، أو إن الشر يبعد الكمال من الشيء أو يقضي عليه، كحبس البرد للنبات حتى يفسد.» «وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر»، ولا سلطان للشر على المعقولات، «والشر إنما يصيب أشخاصا، وفي أوقات، والأنواع محفوظة.»
وقال ابن سينا: «فإن قال قائل: وقد كان جائزا أن يوجد المدبر الأول خيرا محضا، مبرءا عن الشر، فيقال: «هذا لم يكن جائزا في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزا في الوجود المطلق.» وعند فيلسوفنا أن الخير المطلق غير ممكن في عالم يطبق عليه ما بعد الطبيعة المشائية؛ أي عالم القوة والفعل، وحيث توجد قوة يوجد إمكان عدم - أي شر - غير أن الخالق ما كان ليترك الخير الكلي الذي هو خير بالذات، ولو لم يوجد إلا بالقوة، وذلك بسبب الشرور العرضية الممكنة التي توجد مختلطة هناك، ويعود العالم الذي لا ينطوي على إمكان الشر غير شبيه بعالمنا، وإنما يكون شيئا آخر، ولا يعرف ما يعزب عن خيالنا.
ويضحي تفاؤل ابن سينا - مع كل سهولة - بضحايا الشرور الخاصة في سبيل الخير الكلي؛ أي ضحايا العوارض المؤقتة، حتى بضحايا الجحيم، ولا يكون الشر الذي لا يقوم على العدم إلا نسبيا، وذلك على حسبه، وهو يكون خيرا دائما في بعض المواضع، ولو توخيت الدقة لوجد الشر في كل وقت خيرا بمبدئه، فهو ليس شرا إلا بالعرض، «ولا نجد شيئا مما يقال له شر بالأفعال إلا وهو كمال بنسبة الفاعل إليه، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة، التي أولى بها من هذا الفعل»، وهكذا فإن الظلم شر للمظلوم لا ريب، أو هو شر للنفس النطقية التي يقوم كمالها على كسر هذه القوة والاستيلاء عليها، وإنما يكون في البداءة خيرا من الناحية الفعالة؛ أي من حيث القوة الغضبية، التي تطلب الغلبة بطبيعتها، وكذلك النار خير بذاتها، فلها منافع كثيرة وفوائد وافرة في العالم الطبيعي، ومن العرض أن تحدث الإحراق الذي هو شر لمن يعانيه.
ومن الواضح أنه ليس من الحسن أن يزيل صانع الكل قوة الغضب أو يبيد النار بسبب العرض الجزئي الذي ينشأ عن هذه أو تلك، قال ابن سينا: «ليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة.»
وليست أفضلية الخير على الشر في العالم، وفق هذا المذهب، مقصورة على أفضلية من أفضليات ما بعد الطبيعة كما أوضحنا، بل هي أفضلية عددية وكمية، قال مؤلفنا موكدا: «إن من غير الموجود الأمور التي تكون شرا على الإطلاق، والأمور التي يكون معظمها شرا، والأمور التي يتساوى فيها الخير والشر.» وكل أمر يكون الخير غالبا فيه، ومن الخطأ أن يقال: إن الشر أكثر وقوعا من الخير. أجل، إن الشر كثير، ولكنه ليس أكثرية، وذلك كالأمراض فإنها كثيرة، ومع ذلك فإنها أقل من الصحة، وإذا تأملت الشر الذي حددناه وجدته أقل من الخير الذي يقابله. نعم، إن الشرور التي هي نقصانات الكمالات الثانية أكثرية، وهي مثل جهل الإنسان بالهندسة مما لا يضر في الكمالات الأولى، وهي ليست شرورا بالحقيقة، ولكنها إعدام خيرات من باب الفضل والزيادة في المادة.
نامعلوم صفحہ