لم ينجح عند الناس كما نقول؛ لأنه لا يزال في رأي جمهرة المسلمين أن الفلاسفة كفروا أو ألحدوا في دين الله ببعض ما ذهبوا إليه في فلسفاتهم متأثرين في ذلك بفلاسفة الإغريق.
لن تغني عن ابن رشد شيئا في نظر المسلمين المتدينين التفرقة بين قدم العالم قدما ذاتيا يستغني به عن الله في وجوده. وهذا ما ينكره الفلاسفة أيضا، وبين ما يرونه من قدمه قدما زمانيا مع احتياجه لله في وجوده وبقائه. هذا لا يغنيه شيئا ما دام المحدث عند الفقهاء والمتكلمين هو الكائن بعد أن لم يكن، أو هو المسبوق بالعدم. وهذا ما لا يرضى الفلاسفة أن يتصوروه في العالم الذي لا أول لوجوده ولم يسبق بالعدم، في رأيهم.
وكذلك في علم الله، لن يقبل رجال الدين أن يقصره الفلاسفة على الأمور والكليات العامة وهم يقرءون قول الله العليم الحكيم:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
وأيضا في مسألة البعث والجزاء، أنى للفلاسفة أن يؤمن لهم رجال الدين بما يقولون والله تعالى يفصل ويؤكد في آيات كثيرات أن المؤمنين سيكونون في جنات عرضها السموات والأرض، وهم:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون ! •••
ولكن إذا حكمنا بأن ابن رشد لم ينجح في رسالته بالنظر إلى العامة والفقهاء والمتكلمين، فهل من الحق أن نحكم بهذا إذا راعينا من يأخذ المسألة من ناحية البحث الحق؛ فلا يحكم إلا بعد أن يقرأ ويوازن ثم يصدر حكمه أخيرا؟
لن أستطيع أن أبت الرأي في هذا؛ فلست أزعم لنفسي أني من الذين يستطيعون أن ينظروا للأمر من الناحية المنطقية الفلسفية البحتة، ثم يرون من الحق أن يؤولوا نصوص القرآن والحديث إن تعارضت - في رأيهم - مع ما يؤدي إليه النظر الفلسفي.
ثم هناك ما حال دون ذيوع فلسفة ابن رشد ومذهبه في التوفيق أو الجمع بين الحكمة والشريعة؛ أعني ذهاب ريح المسلمين وفقدانهم الاستقلال السياسي، وتبعيتهم لأمة أو أمم تضيق صدورها بالبحث الحر، وما جر هذا كله من جهل ران على العقول والبصائر، ولا نزال نعاني من عقابيله وآثاره حتى هذه الأيام.
كل ذلك عفى على الدراسات الفلسفية، وجعل النفوس ترى فيها إلحادا وكفرا، كما ترى في رجالها ملاحدة وكفرة بالله واليوم الآخر، جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض!
نامعلوم صفحہ