ليتجنب غضب الفقهاء الذين يرون كل تفكير عقلي حر ضربة موجهة للدين الذي لم يأت عن طريق العقل، بل عن طريق الوحي الإلهي، وليكون كذلك بمأمن من غضب الشعب وتعصبه؛ الشعب الذي يشعر بميل طبيعي للثورة على الممتازين بأي نوع من أنواع التمييز، وبخاصة إن دفع لذلك التعصب من رجال الدين الذين يرون لأنفسهم فضلا في العقل والتفكير، ويزعمون أنهم قادرون على فهم ما تحسبه العامة أسرارا وأمورا فوق طاقة الإنسان إدراكها.
وإذا كانت محاولة التوفيق بين الوحي والعقل مما لا يجد منه بدا كل من يشتغل بالفلسفة بصفة عامة؛ فهي كذلك بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام للأسباب المتقدمة، ولأسباب أخرى سنشير بعد قليل بإيجاز إلى أهمها وأحقها بالذكر والتقدير.
من أجل ذلك نرى اليونان عرفوا ما يجب أن يكون من علاقة بين الفلسفة والتقاليد أو الأساطير الدينية، كما نجد للمسائل الدينية حظا لدى كل المدارس الفلسفية ورجالها، وبالأخص سقراط وأفلاطون والرواقيين وفلاسفة الإسكندرية، فإنهم جميعا يحرمون تقويض الدين الذي يعرفون له جدواه الأخلاقية والاجتماعية. ومن الطبيعي أن نرى هذا الاتجاه يزيد ويقوى عند «فيلون
» اليهودي وعند بعض آباء الكنيسة المسيحية.
أما بالنسبة للمسلمين؛ فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين المتناقرين، والذي درس تاريخ الإسلام، ولا سيما الناحية العلمية تقول: إن من كان هذا حاله يرى أن روح التوفيق بصفة عامة كانت طابعا للمسلمين في كل النواحي النظرية تقريبا، فكلما وجدت مذاهب مختلفة أو متعارضة، كانت توجد مذاهب تحاول التوفيق بينها باتخاذها موقفا وسطا، تؤلف به بين أطرافها. والتاريخ، قديمه وحديثه، شاهد صدق يؤيد هذا الذي نقول.
نجد هذه الظاهرة في علم الكلام تتمثل في مذهب الأشعري، الذي هو وسط بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنصوص، ومذهب المعتزلة الذي أعطى للعقل الحرية في فهم نصوص القرآن وتأويلها بما يتفق والعقل.
بل نرى المعتزلة أنفسهم يقررون أن العقل والوحي من الله فلا يتناقضان، وأن الأنبياء لم يكشفوا شيئا لا يقدر العقل على الوصول إليه؛ ولهذا يجب أن يكون ما يجيء به الوحي معقولا، وإلا وجب تأويله عقليا.
وفي التشريع، نجد مذهب مالك يعتمد على الحديث، والمذهب الحنفي يعتمد على الرأي والقياس العقلي، ونرى المذهب الشافعي وسطا أو جامعا بين هذين الطرفين المتعارضين.
فإذا كانت نزعة التوفيق من النزعات الغالبة على مفكري الإسلام بصفة عامة في جميع نواحي التفكير، فأولى ثم أولى للفلاسفة أن يعملوا على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، والفلسفة التي عمادها النظر الصحيح والمنطق السليم.
على أنه كانت هناك عوامل أخرى تجعل لزاما عليهم أن يحاولوا - ما استطاعوا - الوصول للتوفيق بينهما؛ وهذه العوامل ترجع في رأينا إلى ثلاثة: (1)
نامعلوم صفحہ