ابن الرومي: حياته من شعره
ابن الرومي: حياته من شعره
اصناف
فنظام الإقطاع نظام معيب، ولكنه يبقى مستور العيوب ما بقيت هيبة الدولة وسطوة القائمين عليها، فإذا ضعفت وضعفوا فهو الشر المستطير يشقى به الحاكم والمحكوم، وينخر في أركان الملك فلا يدعه إلا وهو مفكك الأجزاء معتور بأسباب الفناء.
فكان الولاة - والخلافة العباسية مرهوبة الجانب والأمور مستقرة في عنفوانها - يؤدون المال الذي عليهم، ويتعهدون الأرض والمرافق بالإصلاح؛ لتغزر عندهم موارد الجباية، وتدوم لهم وللناس منابع الثروة، فلما تقلقلت الخلافة وارتاب الولاة في أمرها وفي أمرهم أهملوا الإصلاح، وتهافتوا على جمع المال، وحبسوا أرزاق العمال، وأغفلوا مرافق الرعية، فخربت الأرض وعم السخط وفسدت طاعة الجند على ما بها من فساد الشقاق والدسيسة، ولجأ الخلفاء إلى اغتيال الولاة والكتاب، وكل من بأيديهم مال الجباية، فأعملوا فيهم القتل واستصفاء الأموال، واستخراج الدفائن والمخبآت، وأصبحت الكتابة والوزارة وما إليهما من وظائف الدولة كأنما هي رخصة بالظلم والغصب ريثما يحتاج الخلفاء إلى ما جمعه الوزراء والكتاب، فيحصلوا على المال من هذه الطريق!
وبلغ من شيوع الاختلاس أن الذين كانت بأيديهم خزائن الدولة شاركوا العمال وأصحاب الوظائف في أرزاقهم، فكانوا لا يؤدون رزق عامل أو صاحب وظيفة إلا إذا اقتطعوا منه إتاوة لأنفسهم، واستكتبوه توقيعه باستيفاء رزقه، غير مستثنين من ذلك أحدا حتى إخوة الخليفة وأهل بيته، بل قد بلغ من شيوع الاختلاس أن أصبح سرا مذاعا لا يكتم في حضرة الخليفة نفسه، ولا يبالي الوزير أو الكاتب أن يجهر بين يديه بفعله: فلما عرض الخليفة المهتدي لسليمان بن وهب بما كان يأخذه هذا من العمال «معجلا ومؤجلا»، قال له سليمان: «يا أمير المؤمنين! هذا قول لا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله، وإن كان حقا وقد علمت أن الأصول محفوظة، فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من غير تحيف للرعية، ولا نقص للأموال؟»
وراجت تجارة الارتشاء من العمال وعمال العمال حتى بلغت أقصى ما عساها أن تبلغه في أواخر أيام الدولة، فقيل عن الخاقاني فيما رواه الفخري: إنه ولى في يوم واحد تسعة عشر ناظرا على الكوفة، وقبض من كل واحد منهم رشوة! فإن كان قد بقي لحسن الظن بين ولاة الأمر بقية، فهذه السرقات والرشاوى والمصادرات والنكبات قد أتت على هذه البقية، فلم تدع بينهم إلا علاقات الحذر والمساومة والتربص وفساد الطوية، ولا جرم تبيض الفتنة وتفرخ في بيئة كهذه بين جند يشغبون، وعمال يدلسون، وعرب يحنقون، وعلويين يتحفزون، ورعية تمزقها براثن الرعاة، وملوك لا يؤمنون على الملك ولا على الحياة.
وقد حضر ابن الرومي في زمانه بعض هذه الفتن وسمع بما تقدمه، وترك لنا في شعره مثلا مما حدث في واحدة منها، وهي فتنة الزنج التي اختلطت فيها الأسباب السياسية والدينية والاجتماعية، فقال يصف ما حل بأهل البصرة على أيدي الثائرين:
كم أغصوا من شارب بشراب!
كم أغصوا من طاعم بطعام!
كم ضنين بنفسه رام منجى
فتلقوا جبينه بالحسام!
كم أخ قد رأى أخاه صريعا
نامعلوم صفحہ