ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
اصناف
وعدي بن زيد العبادي كاتب كسرى.
ولقد كان للفرس رأي حسن في أخلاق العرب وتربيتهم، فقد روي أن بهرام جور - أحد ملوك الفرس - أرسله أبوه وهو حدث إلى المنذر بن النعمان ملك الحيرة ليشرف على تهذيبه وتعليمه، فأحضر له مؤدبين علموه الكتابة والرمي والفقه وأجاد العربية، وظل في الحيرة حتى مات أبوه، وساعده المنذر على تمليكه على الفرس، وكان ذلك في أوائل القرن الخامس للميلاد، ومن هنا وهم أدباء الفرس وقالوا: إن بهرام هو الذي ابتكر الأوزان الشعرية، وفاتهم أنه تلقاها عن العرب في الحيرة.
ثم لما بعث النبي - عليه السلام - كان سلمان الفارسي أول من آمن به من الفرس، فدان بالإسلام وأخلص له حتى قال النبي - عليه السلام: «سلمان منا أهل البيت.»
ولما فتح العرب بلاد فارس في خلافة عمر - رضي الله عنه - بدأ الفرس يدخلون في الإسلام، فلم ينقض القرن الأول حتى شملهم الإسلام إلا قليلا منهم، وشاعت بينهم اللغة العربية، واختلطوا بالعرب وتسموا بأسمائهم، وكتبوا الفارسية بالحروف العربية، وأثرت فيهم الثقافة الإسلامية أثرا عميقا، بل خلقتهم خلقا جديدا حتى جعلتهم يقطعون الصلة بينهم وبين أدبهم القومي قبل الإسلام إلا يسيرا منه.
قال نولدكي: «إن الآداب اليونانية لم تمس من حياة الفرس إلا ظاهرها، ولكن دين العرب وسننهم نفذت إلى قلوبهم.»
فاللغة الفارسية بعد الإسلام أضحت غيرها قبل الإسلام لكثرة ما دخل عليها من الكلمات العربية وأساليب بيانها، وأصبح القرآن والحديث مصدر الأدب الفارسي، فشاع الاقتباس منهما والإشارة إليهما، حتى إنه يكاد يكون في كثير من مناحيه أدبا عربيا مترجما، فالأوزان الشعرية ومصطلحات فنون البلاغة في المعاني والبيان والبديع مأخوذة بأعيانها عن العربية، فضلا عن الاستشهاد بتاريخ العرب وخلفائهم، وضرب المثل ببلغائهم وشعرائهم، واعتبارهم المثل الأعلى في البلاغة، حتى إن الناظر في الأدب الفارسي ليصعب عليه فهم روحه إذا لم يكن ذا إلمام بالحياة الإسلامية واللغة العربية.
وقد كان من اللباقة في المنطق والإنشاء أن يكثر الفارسي من استعمال الألفاظ العربية، قال كيكاوس حفيد قابوس بن وشمكير في كتاب ألفه لتهذيب ابنه جيلان شاه واسمه قابوسنامه: «إذا كتبت رسائلك بالفارسية فلتكن مشوبة بالعربية، فإن الفارسية الصرف لا تعذب في المذاق.»
اجتهد الفرس في تكوين أدبهم هذا، ولكن اللغة العربية كانت صاحبة المحل الأرفع عندهم، فقد ظلت لغة الدين والحكومة والعلم فيما بينهم حتى بعد أن استقلوا عن العرب، وظلوا يصطنعونها في تلك الأغراض الثلاثة حتى اجتاح المغول بلادهم في القرن السابع، فأضحت منذ ذاك الحين لغة الدين والفلسفة فقط.
ويجدر بنا هنا أن نورد دليلا من كلام ابن المقفع على مبلغ إكبار الفرس للعرب، قال: «إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.»
وإليك مثالا آخر يدلك على مبلغ تأثر الفرس بالروح الإسلامية ومقتهم لعاداتهم المجوسية حتى الأعياد القومية منها، كتب بديع الزمان الهمذاني رسالة في ذم السذق - وهو أحد أعياد الفرس المشهورة - جاء فيها: «هذا هو العيد والضلال البعيد، إنهم يشبون نارا هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيارهم لم يعقد مع النصارى زنارهم ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد إفك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالسذق سلطانا، ولا شرف نيروزا ولا مهرجانا، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لما كره من أديانها وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.»
نامعلوم صفحہ