البحر وتضطرب أمواجه في شهر الاعتدال مارس؛ فتكنس عواصفه قناطر الرصيف العالي.
وترى المدينة الكبرى الحجرية هاجعة في أسفل الهيكل، وترى فيها الأبناء، والغرباء، والحكماء، والأغنياء، والأحبار، والسائلين، والمؤمنين والكافرين نياما، وترى الحقد بين بيوتها، والمحبة في منازلها، وترى قليل سرور وكبير أمل فيها، وتراها معبدة يزدري المغلوب فيها الغالب، وترى السلطة فيها ساكنة، والحديد باردا، والأسلحة صامتة، ولا تسمع للأوامر صوتا، فكأن السماء تمطرها سلاما.
تلك العاصمة لم تعرف صلصلة السيوف منذ عشرات السنين، ولكن ما يغلي في صدور هؤلاء القوم من الحقد على الفاتحين لم يفتر فائره؛ فمع ما كان يبدو من عدم اتقاده في الظاهر لم يفتأ أولئك الناس المؤمنون بإله واحد يسبحون في الرؤى قائلين: «سيعود هذا الإله ملكا لليهود، وربا للعالم.»
والأمر فيما هو كذلك إذ كان يسمع صليل حديد، وخفق نعال، ويرى التماع نور تحت قباب الرواق وتواريه؛ ليعود فينصب بشدة، فينهض الكهنة النائمون لحضور الضابط العسكري الذي يطوف هو وجنوده ثلاث مرات حول ذلك الهيكل في كل ليلة؛ لحراسته ظاهرا، ومراقبته باطنا، فتلتقي أنظار الفريقين على ضوء المشاعل من غير أن يتبادلا كلاما، مع اشتعال قلب كل منهما غلا على الآخر.
وماذا يرى الكهنة على ضوء المشاعل؟ يرون بضعة جنود ذوي التماع كالذهب الضارب إلى حمرة، مربوعي القامة، مكشوفي الذرعان والسيقان، مدرعي الأجسام، حاملين سيوفا ورماحا، ويرون تحت خوذ هؤلاء الجنود وجوها مردا سمرا ملزة
4
جافية تدل على قلة التفكير، وكثرة الضحك، والأكل والسير، وسرعة العشق والغرام، ويرون رداء فوق لأمة
5
ضابطهم اللطيف القسمات، والشارد الفكر. والحق أن من عادة هذا الضابط أن يخفي وراء ذلك ما يشعر به في كل مرة من الهزؤ بأولئك الكهنة، والحق أن نور المشاعل يسفر عن نظره إلى أولئك الكهنة الغريبي الأطوار، المائلين إلى الأمام، والبادين طورا طوالا عاطلين من الظرف، وطورا قصارا سمانا، والمجررين أذيالهم فوق نعالهم، والذين تظهر بين شعورهم ولحاهم السود، وجوههم المصفرة المتكرشة بفعل السهر والسهاد، والذين تدل عيونهم السود على التعصب المملوء أملا وزهوا.
ومن ثم تبصر تقابل عالمين: عالم المؤمنين وعالم المقاتلين، أو عالم المغلوبين وعالم الغالبين؛ ومن ثم تبصر التقاء اليهود والرومان في أورشليم ليلا.
نامعلوم صفحہ