محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
اصناف
وسر الخطأ في فهم التصوف؛ إنما نشأ من الإسراف في تعظيم الدنيا وإكبار متاعها وتضخيم لذائذها، لقد أكبروها وأجلوها حتى نسوا الآخرة، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأقبلوا على الدنيا يركضون، فتركها لهم وأنساهم ما خلقوا له؛ فانطلقوا يرتعون ويتخاصمون، ويتقاتلون على الفتات، وسيف القدر فوق رءوسهم، حتى غرقوا في بحار الدم، واحترقوا بالشهوات وتقلبوا في شقاء لا ينفد.
أما الصوفية فحياتهم كما قال حارثة الأنصاري في الحديث المشهور؛ حينما سأله الرسول - صلوات الله عليه: كيف أصبح؟ فقال: مؤمنا بالله حقا، فقال له: «انظر؛ فإن لكل قول حقيقة.» قال: «يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري؛ فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها.»
فقال له - صلوات الله وسلامه عليه: «أبصرت فالزم.»
كان الفتى الأنصاري يعيش في الدنيا ولا يراها؛ لهوانها وضآلة شأنها وتافه متاعها، كان يعيش وعينه على عرش ربه وجلال خالقه؛ ساجدا متعبدا، ويحيا بقلب معرض عن الدنيا معلق بآخرته، حتى لكأنه يرى عرش ربه بارزا، وحتى لكأنه يرى أهل النار وهم يتقلبون في لظاها، وأهل الجنة وهم ينعمون برياها، وكذلك الصوفية. يعيشون على نور اليقين والمشاهدة، لقد أطلقوا الروح في ساحات المحبة والمناجاة؛ فظفرت أرواحهم بقوى عظمى، مستمدة من الصفا الرضا.
وإذا كانت الحضارة الحديثة، قد ظفرت بفتوحات هائلة في ميادين العمل والمادة؛ فأنتجت مصانعها عجائب الرادار، وآيات الأثير والكهرباء، فإن المتصوفة قد ظفروا في عالم الأرواح بفتوحات وفيوضات، وقوى وأسرار، تتضاءل حيالها فتوحات المادة وفيض مصانعها.
لقد ظفروا بفتوحات وفيوضات فتحت لهم أبواب السعادة والجنة، وسخرت لهم قوى المادة وعجائبها، وقوى الروح وأسرارها، امتلأت أيديهم بتلك الكنوز؛ فامتطوها للمعارف والعلوم، وأطلقوها للخير والسلام، وأذاعوها للهدى والإيمان، فلم يدمروا عمارا، ولم يبثوا شقاء، ولم يزرعوها لهبا ونارا.
ولمملكة التصوف أقسامها وأسرارها، ومراتبها وحكامها، وملوكها وأمراؤها وأولو الأمر فيها، ولمملكة التصوف نظم ودساتير وآداب ومثل، وحظوظ مقسمة، وأرزاق موهوبة، ونمارق مصفوفة، وعجائب مبثوثة، ومعارف لدنية وهبات ربانية ، ونفحات نبوية، ومعارج سماوية، وعجائب تذهل العقول؛ ولكنها ترضي القلوب، وفي رضاء القلوب نعيم الإيمان ورضاء الرحمن.
فلنتوجه بقلوب راضية صافية، ولنسبح باسم العلي الكريم، ولنتوكل عليه، ثم لنمسك بمصباح محيي الدين، وهو أقوى المصابيح الكاشفة لحقائق تلك المملكة وأسرارها، ثم لندخل معه إلى ساحاتها وعجائبها.
الكون الحي
هذا الوجود، بل هذا الكون العجيب بسمواته وأرضه، وإنسه وجنه، وجماده ونباته، وحروفه وكلماته، عند ابن عربي صورة جميلة متماسكة تنتظمها روح عامة نابضة بالحركة، مسبحة بالقدرة، فليس في الكون إلا حياة مشرقة، منسقة مدبرة، محددة مسخرة، تجري إلى ما قدر لها، وخلقت من أجله.
نامعلوم صفحہ