محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
اصناف
وبهذا لم يدر المتصوفة مع الجدل، ولم تركض عقولهم مع شهوة الحوار، بل سلموا الأمر لله مع الأدب؛ فما يصيب الإنسان من خير فمن الله، وما يصيبه من سوء فمن نفسه التي علم الله خصائصها منذ الأزل، فيسرها لاستعدادها وطاقتها، وما انطوت عليه.
آمن رجال التصوف بأن كل شيء من الله، وأنه خالق الأشياء وخالق أسبابها، وأنه - سبحانه - يكون عند السبب وحاصله ونتيجته، وأن حكمة الله فوق عقولنا.
عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، فيم العمل الآن؟ أفيما جفت الأقلام، وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: «لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير.» قال: ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وكل عامل بعمله.» (أخرجه مسلم).
هذا هو القول الفصل، والنبأ اليقين: كل ميسر لما خلق له، في علم الله المحيط بالأشياء عند حدوثها وقبل وجودها.
يقول الشعراني - رواية عن الشيخ طاهر الصوفي: «هذه مسئلة من تأملها وكرر النظر فيها علم غموض معانيها، وصعوبة مراقيها؛ وملخص الأمر: أن من زعم أن لا عمل للعبد أصلا فقد عاند وجحد، ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك وابتدع، وما بقي مورد للتكليف إلا ما يجده العبد في نفسه من الاختيار للعمل وعدمه.»
ويقول محيي الدين: «إنما أضاف الله - تعالى - الأعمال إلينا؛ لأننا محل الثواب والعقاب، وهي لله حقيقة، ولكن لما شهدنا الأعمال بارزة على أيدينا وادعيناها لنا، أضافها الله - تعالى - إلينا بحسب دعوانا؛ ابتلاء منه لأجل الدعوى، ثم إذا كشف الله - تعالى - عن بصيرتنا، رأينا الأفعال كلها لله - تعالى - ولم نر إلا حسنا؛ فهو - تعالى - فاعل فينا ما نحن العاملون، ثم مع هذا المشهد العظيم لا بد من القيام بالأدب، فما كان من حسن شرعا أضفناه إليه خلقا وإلينا محلا، وما كان من سيئ أضفناه إلينا بإضافة الله - تعالى؛ فنكون حاكين قول الله - تعالى؛ وحينئذ يرينا الله - عز وجل - وجه الحكمة في ذلك المسمى سوءا، فنراه حسنا من حيث الحكمة، فيبدل الله سيئاتنا حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين.»
ذلك هو الأدب العالي في التعبير، وذلك هو اللائق بالمؤمن أن يسلم لله بكل شيء، وأن يعلم في الوقت نفسه بأنه خلق ليكون محلا لجريان الأحكام الإلهية بحسب الحكمة الإلهية؛ فما كان حسنا فهو إلى الله ينسب، وما كان سوءا أضفناه إلى أنفسنا محلا، وإلى الله - سبحانه - خلقا، ولو تأمل الإنسان قليلا لعرف الحكمة ، ولرأى الشيء الذي ظنه سيئا جميلا نافعا؛ وحينئذ بفضل تسليمه وإيمانه يبدل الله سيئاته حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين، وذلك هو الفضل العظيم، وتلك حكمة لا يدركها إلا الرجال من عباد الرحمن.
ثم يقول: «اعلم أن الله - تعالى - ما أضاف الفعل إلى العبد إلا لكونه - تعالى - هو الفاعل حقيقة، من خلف حجاب جسم العبد؛ فلم يكن الفعل إلا لله - تعالى، غير أن من عباد الله من أشهده ذلك، ومنهم من لم يشهده ذلك. قال - تعالى:
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة . فالقسم الذي هداه الله هو الذي حفظه من دعوى الفعل لنفسه حقيقة، وأما القسم الذي تحق عليه الضلالة فهو الذي حار ولم يدر، وهم القائلون بالكسب وبخلق الأفعال.
قال إبليس: يا رب، كيف تقدر علي عدم السجود لآدم، ثم تؤاخذني به؟ فقال - جل وعلا: متى علمت أني قدرت عليك الإباية عن السجود، أبعد الإباية منك أم قبلها؟ فقال: بعدها. فقال: وبذلك آخذتك.»
نامعلوم صفحہ