محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
اصناف
يذكر لنا في شرح ترجمان الأشواق، كيف اتصل حبله برجل فاضل من أهل العلم والكمال، ثم يقول متحدثا بقلمه الساحر: «كان لهذا الشيخ - رضي الله عنه - بنت عذراء، طفلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وزينة البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغري بظهر الغرور فامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض لأخذت في شرح ما أودع الله في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة، واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة باديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه؛ فنمت أعراف المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك، وهمة ملك؛ فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثير الأنس من كريم ودها وقديم عهدها، ولطافة معناها وطهارة مغناها؛ إذ هي السؤل والمأمول، والعذراء البتول؛ فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة؛ اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء، فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.»
تلك هي العذراء الهيفاء التي أوحت إلى محيي الدين أشعاره في ديوانه ترجمان الأشواق، وتلك هي العذراء التي أحبها محيي الدين وبنى بها، وكان له منها الولد والأثر.
السائح الإسلامي
كان البيت الحرام بعيد الأثر في حياة محيي الدين؛ ففيه كتب الفتوحات، وفي مكة توثقت صلاته بالحجيج الوافد من كل فج يتولى التدريس لهم، ويحملون إلى بلادهم معارفه وعلومه؛ فهو زعيم علماء البيت المعمور، وإمام الوافدين إلى هذا المجتمع العالمي.
وأخيرا آن له أن يلبي الأمر بالرحيل، ليتم تطوافه بالعواصم الإسلامية؛ فودع الجزيرة العربية المحببة إلى روحه وقلبه، وفارق المدينة والطائف وغيرهما من مهابط الوحي، وملهمات الذكريات الخوالد.
وذهب محيي الدين إلى الموصل، وطاف بعبادها وزهادها، والتقى برجال التصوف فيها، ثم ولى وجهه إلى بغداد، يركع ويتهجد في محاربها ومساجدها، ويلقي دروس العلم في مدارسها ومعاهدها، ويلوذ به الأئمة ورجال الله.
يقول الإمام عبد الله اليافعي في الإرشاد: «اجتمع محيي الدين في بغداد بالإمام السهروردي، فأطرق كل منهما ساعة ثم افترقا، فقيل لابن عربي: ما تقول في السهروردي؟ فقال: مملوء سنة من مفرقه إلى قدمه. وقيل للسهروردي: ما تقول في محيي الدين؟ فقال: بحر الحقائق وإمام العارفين.»
ثم طوف ببلاد الروم، والتقى بملك «قونية» فأجله وأكرمه، ووهب له دارا، قدرت بمائة ألف درهم، فلما نزلها وأقام بها، مر به سائل فقال له: شيء لله. فقال: ما لي غير هذه الدار فخذها لك، فتسلمها السائل، وعاد محيي الدين يملك الدنيا ولا يملك شيئا.
ثم هبط إلى الشام وهي الأرض التي أحبها ورغب أن يموت بها؛ لأن الرسول - صلوات الله عليه - قال: إنها بلد الأبدال والعلماء.
قال شيخ الإسلام المخزومي: «وقد كان الشيخ بالشام كعبة للقاصدين ومثابة للمتفقهين، يتردد إليه العلماء، ويحف به الأدباء، ويلوذ به الأوفياء، يعترفون له جميعا بجلالة المقدار، وأنه أستاذ المحققين من غير إنكار، وقد أقام بين أظهرهم أمدا طويلا، يكتبون مؤلفاته، ويتداولونها بينهم، ويسألونه الدعاء .»
نامعلوم صفحہ