محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
اصناف
فهو في مطلع أبوابه في الفتوحات، يلغز في شعره، ويبهم في قوله، فإذا أخذت الألغاز، وأخذ الإبهام بنفس القارئ قطع وأغلقت عليه المعاني، أما إذا سبح معه سبحا طويلا، حتى يصل إلى نهاية الباب وغايته؛ تكشفت له البدائع، وسهلت عليه البداية، كما سهلت وتسهل عليه معاني الغاية.
ثم يقول: إذا حصر الإنسان بصره، على باب من أبواب الفتوحات وردد عليه بصيرته، استخرج اللآلئ والدرر، وأعطاه الباب ما فيه من حكم روحانية، ونكت ربانية، ويعطى كل على قدر فهمه، وقوة عزمه، واتساع نفسه في الغوص، وخوض لجج العباب.
محيي الدين لأصحاب الهمم والعزمات، ولمهرة الغواصين وجبابرة السابحين، لأهل الإشراق والنور والصفاء، محيي الدين لهؤلاء، وقليل ما هم.
أما فاتر العزم، خائر القوى، مطموس البصيرة، زائغ البصر، ضيق النفس، فليلتمس له سهلا هينا، يضرب على حوافيه، وليدع القمة للمحلقين الفاتحين.
إلى الأرض المقدسة
فارق محيي الدين مكانه في المغرب، بعد تسعة أشهر إلا أيام، في العيش الأرغد الأهنى؛ لانحراف الحال بينه وبين سلطانه، معتزما الحج والعمرة، وزيارة سيد ولد آدم، ثم الإسراع إلى ثالث الحرمين وأولى القبلتين، ثم التطواف بالعالم الإسلامي.
ويؤرخ لنا محيي الدين، تلك الحقبة من حياته، فيقول بعد أن يتحدث عن خواطر نفسه، وعن ليلة ليلاء، طوف فيها فكره، ثم استسلم أخيرا إلى الكرى: «كشف لي في منامي عن نور العرش؛ فرأيت طيورا حسنة تطير في زواياه، فرأيت فيها طائرا من أحسن الطيور، فسلم علي، فألقي لي فيه أن آخذه صحبتي إلى بلاد المشرق، وكنت بمدينة مراكش؛ حين كشف لي عن هذا كله، فقلت: ومن؟ فقيل لي: محمد الحصار، بمدينة فاس ، سأل الله الرحلة إلى بلاد الشرق، فخذه معك، فقلت: السمع والطاعة، فقلت له - وهو عين ذلك الطائر: تكون صحبتي إن شاء الله.
فلما جئت إلى مدينة فاس سألت عنه فجاءني، فقلت له: هل سألت الله في حاجة؟ فقال: نعم، سألته أن يحملني إلى بلاد الشرق، فقيل لي: إن فلانا يحملك، وأنا أنتظرك من ذلك الزمان؛ فأخذته صحبتي سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأوصلته إلى الديار المصرية، ومات بها.»
رأى محيي الدين أرواح الصالحين، تطوف وتطير في نور العرش، ورأى رجلا صالحا تمثلت روحه في هيكل طائر جميل، وهذا الطائر أو هذا الرجل ينتظره ليذهب معه إلى المشرق؛ فعلم أنه قد أذن له في الرحيل، والتقى بصاحبه على قدر قد قدر، فوجها ركبهما معا إلى أرض النيل، وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
وفد محيي الدين إلى مصر، تتقدمه عواصف ضخمة حول: علومه، ومعارفه، وكشوفاته القلبية والروحية، وتلقاه العلماء ورجال الفقه بالجفاء؛ فعقدوا له حلقات المناظرة والجدل، ونفخوا عليه بالحقد والموجدة، فلم ينالوا من مكانته شيئا، بل كانوا كما يقول اليافعي: حكمهم حكم ناموسة، نفخت على جبل تريد إزالته.
نامعلوم صفحہ