محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
اصناف
يقول محيي الدين: «وإذا عرف التلميذ من الشيخ أنه بهذه المثابة؛ فقد فتح الله على ذلك التلميذ بما فيه سعادته، فإنه يتجرد إلى جانب الحق بتجرد الشيخ، فإنه عرف منه، واتكل على الله لا عليه، وبقي ناظرا في الشيخ ما يجري الله عليه من الحال في حق ذلك التلميذ من نطق بأمر يأمره به، أو ينهاه، أو بعلم يفيده؛ فيأخذ التلميذ من الله على لسان هذا الشيخ، ويعلم التلميذ في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه أنه محل جريان أحكام الربوبية، حتى لو فقد الشيخ لم يقم غير ذلك التلميذ ذلك المقام؛ لعلمه بحال شيخه، كأبي بكر الصديق مع رسول الله - صلوات الله عليه - حين مات، فما بقي أحد من الصحابة إلا اضطرب، وقال ما لا يمكن أن يسمع، وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره، وعدم معرفة رسوله الذي اتبعه، إلا أبو بكر؛ فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما تم، فصعد إلى المنبر قارئا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وعرف الناس يومئذ فضل الصديق؛ فاستحق الإمامة .»
ذلك هو المثال الذي ساقه محيي الدين لتوضيح مقام العبودية؛ فإن الصديق لكمال عبوديته كان يسمع من الرسول، ويتوكل على الله، فتجرد إلى جانب الحق بتجرد إمامه الأعظم - صلوات الله عليه - فكان يأخذ من الله على لسان نبيه، فلما انتقل خير عباد الله إلى جوار ربه بقي أبو بكر ناظرا إلى الله، فلم يشغله الهول الأعظم عن كمال عبوديته.
ثم يقول محيي الدين: «ونرجو إن شاء الله أن يكون مقامنا هذا، ولا يجعلها دعوى غير صادقة؛ فإني ذقت هذا المقام ذوقا لا مزاج فيه، أعرفه من نفسي، وما سمعته عن أحد ممن تقدمني غير أبي بكر.»
مقام القربة
والمشهور عن محيي الدين في معراج المقامات أن أقصى مراتبه في التحليق إلى الهدى والإيمان هو مقام الصديقية، ولكنه بعد أن ظفر به، يحدثنا عن مقام آخر هو مقام القربة، وهو مقام الخضر وهو فوق الصديقية ودون النبوة.
وهذا المقام، هو أسمى ما يتطلع إليه أحباب الله، يحدثنا محيي الدين عنه فيقول: «هذا المقام دخلته في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأنا مسافر بمنزل إنجيل ببلاد المغرب، فتهت في ذلك المنزل فرحا، ولم أجد فيه أحدا؛ فاستوحشت من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، ولما دخلت هذا المقام وانفردت به علمت أن حالي فيه لو اطلع عليه أحد لأنكرني؛ فسحت فيه وتنقلت في منازله ومخادعه، وأنا لا أدري ما اسمه مع تحققي به، وما اختص الله به من أتاه إياه، ورأيت أوامر الحق - سبحانه - تترى علي، وسفراه تتنزل إلي، تبغي مؤانستي وتطلب مجالستي؛ فرحلت وأنا على تلك الحال من الاستيحاش بالانفراد، والأنس إنما يقع بالجنس، فلقيت رجلا من الرجال بمنزل يسمى أنحال، فصليت العصر في جامعه، فجاء الأمير أبو يحيى بن واجين، وكان صديقي وفرح بي، وسألني أن أنزل عنده، فأبيت ونزلت عند كاتبه، وكان بيني وبينه مؤانسة، فشكرت الله على ما أنا فيه من انفرادي بمقام أنا مسرور به، فبينما هو يؤانسني؛ إذ لاح ظل شخص، فنهضت من فراشي إليه عسى أجد عنده فرجا، فعانقني فتأملته فإذا هو عبد الرحمن السلمي قد تجسدت لي روحه، بعثه الله لي رحمة، فقلت له: أراك في هذا المقام، فقال: فيه قبضت وعليه مت، فأنا فيه لا أبرح. فذكرت له وحشتي فيه وعدم الأنس، فقال: الغريب مستوحش، فصاحب هذا المقام ليست الدنيا مقامه، وبعد أن سبقت لك العناية الإلهية بالحصول في هذا المقام فاحمد الله، ومن يا أخي يحصل له هذا لا يرضى؟ ألا ترضى أن يكون الخضر صاحبك في هذا المقام، وقد أنكر موسى عليه حاله، وما قدر على صحبته؟
فقلت: يا أبا عبد الرحمن، لا أعرف لهذا المقام اسما؛ فقال لي: هذا يسمى مقام «القربة» فتحقق به فتحققت به؛ فإذا به مقام عظيم، لعلماء الرسوم من أهل الاجتهاد فيه قدم راسخة، لكنهم لا يعرفون أنهم فيه، ورأيت الإمداد الإلهي يسري إليهم من هذا المقام؛ ولهذا ينكر بعضهم بعضا لأنهم ما حصل لهم ذوقا، ولا يعلمون ممن يستمدون مشاهدة ومكاشفة؛ فكل واحد منهم على حق، كما أن لكل نبي تقدم هذا الزمان المحمدي شرعة ومنهاج، والإيمان واحد.
فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع، وأدلتهم تقوم مقام الوحي للأنبياء، واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام، إلا أنهم ليسوا مثل الرسل لعدم الكشف؛ لأن الرسل يشد بعضهم بعضا، وكذلك أهل الكشف من علماء الاجتهاد، وأما غير أهل الكشف منهم فيخطئ بعضهم بعضا.
ومن أسرار هذا المقام معرفة التقديم والتأخير، وأسرار الترتيب في كلام الله، ولو قال الخضر لموسى من أول ما صحبه: ما أفعل شيئا مما تراني أفعله عن أمري؛ ما أنكره عليه ولا عارضه، وقد أنطقه الله بقوله:
نامعلوم صفحہ