ويقرأ المثقفون من الغربيين هذا الشعر الرفيع ولا يشعرون بالمناقضة بين ما يوحيه من القيم الأخلاقية في تصوير أصول الخير والشر، وبين دعوى الامتياز الأوروبي على أمم الشرق في تصويرهم لهذه الأصول، وليس في وسعهم أن ينكروا دلالة الأساطير الكونية على معايير الأخلاق وبواطن الشعور، وليس في وسعهم كذلك أن ينكروا التواتر في رواية تلك الأساطير. ونحسب أن السهو عن بيان هذه المفارقات في كتاب يوضع عن «الشيطان» يخل بأمانة الكاتب من الشرقيين وغير الشرقيين، ولكن الكاتب الشرقي - من أبناء هذا العصر خاصة - يخل بأمانتين لا بأمانة واحدة حين يسهو في هذا السياق عن تمحيص الحقائق، ودفع الأباطيل التي تتجاوز الخطأ إلى الضرر بالنفوس. •••
ويبدو أن اليونان المتأخرين - قبل عصر المسيحية - قد استعاروا من الشرق فكرة أخرى عن أصل الخطيئة، أو أصل الخطايا الشيطانية جميعا، فردوها إلى الكبرياء، وأطلقوا على هذه الخلة اسم الهوبري “Hubris” ، وهي كلمة قريبة من دلالات الرجس في اصطلاح الدينيين.
ولكن الكلام في الكبرياء لا يغني عن تعقيب ينفي عن الكبرياء محاسنها، ولا يبقي لها غير عيوبها التي ينكرها الدين كما ينكرها معيار الأخلاق.
فالكبرياء على الإله الكامل العظيم في صفاته وآلائه كفران لا شك فيه، وخطيئة لا مسوغ لها من العقل ولا من الضمير. أما الكبرياء على صاحب سلطان يستسلم لشهواته، ويصب صواعق السماء في سبيل أكلة من اللحم والشحم، فليس فيها من معنى الخطيئة كثير ولا قليل، وليس في استعارتها لهذا المعنى دليل على معيار صادق للحسنات والعيوب، ولكنه من قبيل النقل على السماع في غير موضعه ومغزاه.
الفصل الثالث
(1) في طريق الأديان الكتابية
قبل أن ننتقل إلى عقائد أهل الكتاب في قوة الشر العالمية، نتريث هنا لحظة لتلخيص المرحلة الطويلة التي عبرها الإنسان في هذا الطريق، من خطواته الأولى حيث لا تمييز بين خير وشر، ولا بين إله وشيطان، إلى غايته القصوى في حضارات الأمم القديمة حيث ظهرت ديانة التوراة، وهي أول الأديان الكتابية في التاريخ.
آمن الإنسان بالأرواح والأطياف من أول عهده بالدين في الهمجية الأولى، وآمن منها بما يرجوه وما يخشاه، ولكن كما يرجو النفع ويخشى الضرر من كل شيء يحيط به، وتتعلق به المنافع والمضار، ولم يكن للتفرقة بينها معنى في مقياس الأخلاق أرفع من معنى التفرقة بين الحيوان الأنيس والحيوان الضاري، أو بين الحشرة المأمونة والحشرة السامة، أو بين جمادين أحدهما يفيد ولا يضر، والآخر يضر ولا يفيد، وربما تلبس عنده الجماد بروح من الأرواح أو طيف من الأطياف كلما ارتجى نفعه واتقى أذاه.
وخطا في طريق التدين خطوة أخرى حين قسم الأرواح والأطياف إلى طيب وخبيث، واحتاج إلى الكاهن والساحر، ليروض له الخبيث بالرقى والتعاويذ، ويجزي عنه الطيب بالدعوات والقرابين، وعمل التخصص عمله البطيء فانفصل دور الدعاء ودور السحر، وإن عمل فيهما كاهن واحد، كما كان ينفصل دور الراعي ودور الصياد وإن كان كلاهما يرعى الحيوان النافع، ويصيد الحيوان الذي يفتك بالأناسي والماشية.
ثم خطا الإنسان خطوة أخرى من التمييز بين المنفعة والمضرة، وبين المنفعة التي تصدر على الدوام من الطيبة وحسن النية، والمضرة التي تصدر على الدوام من طبع خبيث ونية سيئة، ولم يكن أمامه في هذه الخطوة مثل على الشر الخبيث الذي يضمر السوء، ويتوارى عن النظر، أقرب إلى الحس والخيال من الحية التي تزحف على التراب، وتندس في الجحور كيدا وخديعة وتمكنا من الدس والأذى فيما توهمه، ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئا سواه؛ ولهذا بقيت صورة الحية مقترنة بقوة الشر حقيقة أو رمزا إلى أحدث العصور.
نامعلوم صفحہ