على أن الأرواح الأولى في جاهلية الإنسان قد تطورت في اتجاه آخر مع هذا الاتجاه في مجال الخير والشر، وعالم النفس الإنسانية بما يعرض له من صلاح وفساد.
ذلك الاتجاه الآخر هو تطورها فيما يتعلق بقوى الطبيعة وظواهر السماوات والأرضين.
فهنا أرواح من الجان الخفي لها عمل غير علاج النفس الإنسانية وفسادها، ولها قدرة خاضعة لسلطان الإله ومن يصطفيه من عباده، وينسب إليها كل مجهود عظيم تقصر عنه طاقة الإنسان.
وليست قدرتها هذه لأنها تعلمت ما لم يتعلمه الإنسان، ولا لأنها ذات عقول أكبر من عقله وأصلح منه للفهم والتفكير.
ولكنها قدرة تأتيها من عالم الأسرار الذي تعيش فيه، فهي تسخر القوى الطبيعية لأنها تعيش بين أسرارها، وتحسب منها أو في حكمها، وإذا فطنت للمعنى الدقيق الذي لم يفطن له الإنسان، فإنما تأتي فطنتها كذلك من اطلاعها على الدقائق والخفايا، ونفاذها إلى العالم الذي يطرقه حس الإنسان ولا يتسلل إليه عقله.
وهذه هي شياطين الفنون والصناعات، تبني الصروح، وترفع الصخور، وتنهض بالأثقال التي تعيا بها كواهل الإنسان وتنوء تحتها أدواته وصناعاته، وتدخل في ثنايا الخفاء فتلهم الشاعر ما يدق عن سائر بني آدم من غير الشعراء، ولا جرم يكون لهؤلاء الشعراء وأمثالهم من أصحاب الفنون حال كمس الجان وغيبوبة المخبولين؛ لأنهم يخاطبون الجان ويفقهون عنها، ويلحنون منها أسرار لغاها وإشارات وحيها.
وتلك هي أنواع الشيطنة من جانبيها: في اتجاه الضمير، وفي اتجاه الذهن والقريحة.
في اتجاه الضمير ترتبط «الشيطنة» بالصلاح والفساد، والخير والشر، ومساعي الإنسان نحو الكمال والرشاد.
وفي اتجاه الذهن والقريحة ترتبط «الشيطنة» بالأسرار والبواطن، وبالوحي الخفي وغرائب العبارة، سواء كانت عبارة لغة أو عبارة شكل وإشارة.
وسيكون لكل نوع من هذه الأنواع نصيبه فيما يلي من الصفحات.
نامعلوم صفحہ