حتى يطلقوا القول غير محتشمين بأن المتنبي من بين أولئك الشعراء أبدع معانيَ لم يَفطِن لها سواه، ولم يعثُر بها أحد غيره ممن يجري مجراه.
ولقد قال المرزباني فيما حكى عنه: إنه لما صنّف كتابه على حروف المعجم بأسامي الشعراء جمع دواوين قريب من ألف شاعر حتى أختار من عيونها ما أراد، وامتار من متونها ما ارتاد.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أن البحتري على ما بلغه أحرق خمسمائة ديوان للشعراء في أيامه حسدًا لهم لئلا تشتهر أشعارهم، ولا تنشر في الناس محاسنهم وأخبارهم؛ فمن أين لهؤلاء المتعصبين للمتنبي أنه سبق جماعتَهم في مضماره، ولم يقتبس من بعضها محاسن أشعاره؟ وهل للذين يتدينون بنصرته بصائرُ بحسن المأخذ، ولطف المتناول، وجودة السرقة، ووجوه النقل، وإخفاء طرق السلب، وتغميض مواضع القلب، وتغيير الصيغة والترتيب، وإبدال البعيد بالقريب، وإتعاب الخاطر في التثقيف والتهذيب، حتى يدّعوا علم الغيب في تنزيهه عن السرقات التي لا تخفى صورتها على ناقد، وتبرئته من المعايب التي شهد عليه بها ألف شاهد؟ ولست - يعلم الله - أجحد فضل المتنبي، وجودةَ
شعره، وصفاءَ طبعه، وحلاوةَ كلامه، وعذوبة ألفاظه، ورشاقةَ نظمه، ولا أنكر اهتدائه لاستكمال شروط الأخذ إذا لحظ المعنى البديع لحظًا، واستيفائه حدود الحذق إذا سلخ المعنى فكساه من عنده لفظًا، ولا أشك في حسن معرفته بحفظ التقسيم الذي يعلق بالقلب موقعه، وإيراد التجنيس الذي يملك النفس مسمعه، ولحاقه في إحكام الصنعة ببعض من سبقه، وغوصه على ما يَستصفى ماءَه ورونقه، وسلامة كثير من أشعاره من الخطل والزلَل والدّخلَ، والنظام الفاحش الفاسد،
1 / 23