وبدلا من تمثل الحضارة الغربية يبدأ رفضها، وهو ما سماه المصلحون «الحضارة المادية»، وحاولوا نقده وبيان معارضته لقيم الحضارة الروحية كافة مثل الحضارة الإسلامية، وهو ما نقده فلاسفة الغرب أنفسهم مثل برجسون وهوسرل وشيلر ورسل وتوينبي. وينشأ الاستقطاب الشديد بين السلفي والعلماني، بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو في اللاشعور استقطاب بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال، بين أهل الجنة وأهل النار. ويشتد تحت الحكم الاستبدادي الديني أو العسكري.
وقد ظهرت الهوية السلفية منذ القرن الثامن عشر في الحركة الوهابية؛ التي نشأت رد فعل على مظاهر البدع والخزعبلات وجوانب الشرك في التوحيد داخل العقيدة الإسلامية في الحجاز؛ التبرك بالأشجار والأحجار ومقابر الأولياء، وضرورة العودة إلى أصل التوحيد في الكتاب والسنة؛ اعتمادا على النصوص والأدلة النقلية. وربطت نفسها بابن تيمية وابن القيم ووراءهما ابن حنبل. وعادت السلفية إلى الازدهار بعد سقوط الخلافة العثمانية وكبوة الإصلاح ودخول كبرى الحركات الإسلامية، الإخوان المسلمين، في السجون على مدى أكثر من نصف قرن. وارتبطت السلفية بالقبلية في الحجاز وبتأسيس الدولة، فارتبط الدين بالدولة. ولما كان الدين سلفيا أصبحت الدولة سلفية كذلك. وانتشر منهج النص، واتحدت سلطة النص مع سلطة الأمير؛ السلطة الدينية والسلطة السياسية. وأعطيت الأولوية للواجبات على الحقوق، وللحدود على الظروف المخففة، وللمنع على الإباحة، وللقهر على الحرية. فقام الاستبداد السياسي على الاستبداد الديني، وأصبح الدين يعني بالضرورة القمع والمنع والقهر والزجر والحرام، والتحريم والتخويف؛ فيمنع قدرات الإنسان من التجلي، وتكون الهوية مفروضة عند كل الناس، من يقبلها ومن لم يطقها، كالخاتم الخارجي الذي يلاصق الجسم فيطبعه بطابعه.
ومنذ فجر النهضة العربية في القرنين الماضيين كان قد نشأ صراع الهويات؛ الهوية الإصلاحية التي يمثلها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وابن باديس وعبد القادر الجزائري، والهوية الليبرالية التي يمثلها الطهطاوي وخير الدين التونسي وطه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل، وقاسم أمين في كتابيه عن المرأة «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وخالد محمد خالد في كتابه الأول «من هنا نبدأ» وكتبه التالية، قبل أن يتحول إلى الهوية الإسلامية في «رجال حول الرسول». والهوية العلمية العلمانية التي يمثلها شبلي شميل وفرح أنطون ونيقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر، قبل أن يتحول في آخر حياته إلى الهوية الإسلامية في «الإسلام أبدا». وما زالت هذه الهويات الثلاث في صراع بينها، تتقارب وتتباعد فيما بينها، تختلف في نقطة البداية؛ الدين للتيار الإصلاحي، والدولة للتيار العلماني ، والعلم للتيار العلمي، ولكن النهاية تتقارب في كبوة كل تيار، والاقتراب من السلفية؛ السلفية الدينية، والسلفية الليبرالية في الفكر، والسلفية العلمية في برامج العلم والإيمان. أصبحت السلفية طابع الفكر، الرجوع إلى الوراء للعجز عن مواجهة الواقع، الليبرالية سلفية، والعلمانية سلفية، والإصلاحية سلفية. ويقوي ذلك قيمة السلف في الثقافة الشعبية
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، «خير القرون قرني» ... على الرغم من وجود تيار آخر في الثقافة الشعبية يعطي الأولوية للتقدم على التأخر
والسابقون السابقون ،
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» ... وجوهر النبوة التقدم في مسار طويل من أول الأنبياء حتى آخر الأنبياء؛ حتى يرث العقل والحرية النبوة.
وبرزت الهوية العلمية العلمانية تبنيا للنموذج العلمي الطبيعي الغربي، وأهم نظرية فيه في القرن التاسع عشر؛ وهي نظرية التطور في العلوم الطبيعية، والعلمانية؛ أي: فصل الدين عن الدولة في العلوم الإنسانية. بدأها شبلي شميل (1850-1917م)، وفرح أنطون (1874-1922م)، وسلامة موسى (1887-1958م)، وإسماعيل مظهر (1891-1962م)، وزكي نجيب محمود (1905-1993م). فالعلم الطبيعي يستند إلى منهج تجريبي لا إلى أحكام مسبقة، فإذا ما تحقق أحد افتراضاته أصبح قانونا. يبدأ بملاحظات أولية تعتمد على الحس لا على الغيب. وقانون الطبيعة ثابت، ومن ثم لا مكان للمعجزات؛ بمعنى خرق قوانين الطبيعة. ومع ذلك ظلت الهوية العلمية خارجية؛ لأنها تستند إلى أساس ديني غيبي أسطوري مغروز في الثقافة الشعبية. ولم تقم بعد محاولة جادة لنقدها وتطهيرها؛ من أجل بناء ثقافة علمية بديلة تقوم على العلية؛ كما كان الحال في علم أصول الفقه في القياس الشرعي؛ الأصل الرابع للتشريع؛ إذ غلب الأصل على الفرع في الثقافة الشعبية المغروزة، وأخذ الفرع حكم الأصل بلا تعليل. ما زال العلم وافدا من الغرب لا نابعا من الذات، بل إن بعض العلماء يهاجرون إلى الغرب بلاد العلم، ويتركون بلاد الخرافة والجهل والسحر والشعوذة؛ حتى وصل مقدار العلماء الأفارقة والآسيويين إلى نحو 30٪ من مجموع العلماء الغربيين الذين يسهمون في تقدم العلم وبناء العمران .
وتنشأ ظاهرة «التغريب» بين المثقفين رد فعل على التخلي عن الهوية الأصلية. ويعني التغريب أخذ الغرب نموذجا في الفكر والحياة اليومية؛ في الثقافة واللغة واللباس والمنظور. ويصبح نموذج «الخواجة» أحد نماذج التحديث في الفكر العربي المعاصر. فالغرب مصدر العلم ونموذج الحداثة، وكان كذلك منذ فجر النهضة العربية الحديثة، وكان وراء التحديث في عصر إسماعيل حتى «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين؛ فنشأ رد فعل عليه في التمسك بالهوية، وظهر نموذج التواصل مع الماضي بدلا من الانقطاع عنه كما فعل الغرب، وكتب توفيق الحكيم «عصفور من الشرق»، وكتب محمد الغزالي «ظلام من الغرب». وأراد علي عبد الرازق فصل الدين عن الدولة أسوة بالغرب؛ في «الإسلام وأصول الحكم»، وتقليدا للثورة الكمالية في تركيا. ورد عليه محمد رشيد رضا في «الخلافة أو الإمامة العظمى» في نفس العام؛ لإحياء الخلافة الإسلامية بعد سقوطها عام 1924م بعد الثورة الكمالية في تركيا عام 1923م. وما زال التغريب غواية للنخبة إحساسا بالنقص أمام الآخر، ورغبة في الوصول إلى مستواه؛ لغة وثقافة وعلما وتحضرا. ومهما نشأت محاولات لعلم «الاستغراب»؛ لتحويل الغرب إلى موضوع للعلم من أجل التحرر منه، فإن التغريب ما زال مستمرا، ويظهر أثره في الحياة العامة، ويحدث رد فعله في الهوية السلفية.
4
ثم نشأت الهوية الليبرالية جمعا بين القديم والجديد عند الطهطاوي في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، وخير الدين التونسي في «أقوم المسالك». يقرأ الهوية العربية الإسلامية من منظور التحديث الغربي خصوصا فلسفة التنوير؛ فولتير ومونتسكيو وروسو، وقراءة فلسفة التنوير من منظور إسلامي؛ فمونتسكيو في «روح الشرائع» هو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون في «المقدمة» هو مونتسكيو الشرق، وعلم العمران عند ابن خلدون هو ما سماه الغرب «الإندوستريا»
نامعلوم صفحہ